الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ١٢:١٣ مساءً

مخلوقات الغربة ؟؟!!

طارق السكري
الاربعاء ، ٠٨ أغسطس ٢٠١٢ الساعة ٠٨:٤٠ مساءً
ألا انعم صباحاً أيها الربعُ وانطقِ .. وحدِّث حديثَ الركبِ إن شئتَ واصدقِ
مالك أيها البيت اليمني في الأدب ثاوٍ على الصخر وحيدا.. حزينا تتقد لوعة وشجنا .. تسفّ الريح حولك , والنبات الشائك مغروز في نوافذك وعلى الممرات والمداخل .. والفراغ المقيت الكئيب يتنفس صاباً ومرارة .. أنظر إليك وقد كنتَ مرتعا خصبا تمره الظبا والوعول , وتيممه الطيور والأمنيات الفاتنة .. تتعالى في جنباته وفي أزقته هتافات الصبية يلعبون ويهزجون .. وتموج به ضحكات الصبايا الفاتنات , وبعضا من عيون سحابة يسح كأنها دموع عاشق , وتتوسط العرصات منك مجالس الأدب والشعر والحكمة يتجاذب الشداة فيها أطايب الحديث عن الكون والحياة والموسيقى ..
كأنك في روح المتنبي عروسا من المجد لا ينتهي إليها الخيال ولا يليق بها مربع ..
يقولون ما أنت في كل بلدة ٍ .. وما تبتغي ؟ ما أبتغي جل أن يُسمى !

أو قوله :
على قلقٍ كأنَّ الريحَ تحتي .. أوجِّهها جنوبا أو شمالا !!
أو كأنك في روح امرئ القيس عرشا مفقودا لا بد من العثور عليه , وحقا مسلوبا لا غنى عن استرداده , وثأرا واجبا لا حياة إلا به .
أو كأنك في روح البردوني عزاءً وشفقة على حال لص تسوّر بيته ليلا فخرج من بيت شاعر خاو الوفاض .
ماذا وجدتَ سوى الفراغِ .. وهرةٌ تشتمُّ فاره ؟!
ولهاثُ صعلوكِ الحروفِ يصوغُ من دمه العباره
أو كأنك في روح اليمني صندوقا قديما كصندوق العروس الذي يجمع حاجياتها إلى البيت الجديد .
ياسموات العوالم ..
أمطرينا بدراهم !

مسكين هذا المغترب اليمني ! مسكينة هذه السلالة من البشر ! أنعم الله عليها بطيب التربة وطيب الجبال وطيب الهواء وطيب الماء وطيب الوادي لكنها بالفطرة تعمى عن هذا كله , وتقول ربنا باعد بيننا وبين أسفارنا .. أسفارنا هذه المعلقة في أصلابنا وفي فقار ظهورنا وفي أعشاش قلوبنا وفي أغاني بوفية الجامعة !
أسفارنا سجل حياتنا وشارات وجودنا .
أسفارنا كابوس مزعج وطائر قلق وليل لا فجر معه , وركض في الأبد , ولهاث لا انقطاع دونه , ورصاصة مفوّقة تنفذ الصخر , وتقتل الغول , وتعبر الدنيا فيأكلها اليمني أكلا .
امرؤ القيس من اليمن قد مهد الطريق وتكبد غربة الوطن وغربة الروح .. كان فرحه في ظل أبيه زائر طيف ! ومزنة صيف . وقصفه في شبابه , غمضة عين ولقحة طائر !
أأسماءُ أمسى ودُّها قد تغيَّرا .. سنبدلُ إن أبدلتِ بالحبِّ آخرا
ولم يُنسني ماقد لقيتُ ظعائناً .. وخملاً لها كالقرِّ يوما مخدّرا

قلنا نقيم بيتا يلم شتات الروح المعذبة في هذه الأصقاع ويجمع المتفرّق من الدر المتمثل في مقنص خاطر , أو المتجسد في صورة هاجس .. فقلما تجد يمنيا لا يشعـَر .. قلبه مستودع لحن وروحه مسكونة بالألم , وطائفه طائف وجع .. كأنّا ما تجمعنا في اليمن إلا لنفترق , وما احتشدنا إلا لنغترب .. لا يوجد مكان في الدنيا يخلو من جالية يمنية , ولا توجد جالية يمنية تلبي طموح بائس . حظنا منها أننا نلقم فمها بستمائة قرش فتجدد لنا جواز السفر !
الألم الدافع المحفز ينعش الذاكرة , ويقوي الساعد ,وينضج الحكمة والخبرة ويفتق الذهن على أسرار وكنوز كانت مغمورة فيما هو أعمق من المحيطات .. في الذات ..
إن اليمني يغترب فلا ندري من دمعه الشاعر , ولا من بلبل خاطره الثائر , ولا من أدبياته وفلسفاته حول وطنه المنكوب .. أليس له وطن منكوب ؟ أليس له وطن محروب ؟ أليس له وطن منهوب ؟!!
أما من قلمٍ يصوّر لنا مباهج الفرح , ومآتم الحزن ؟!
أما يتنفّس خاطرك على الورق بشيء ؟!!

إن الغربة همٌّ يقتسمه الناس كالهواء والمطر ..كالحب والشوق .. كالموت والفناء .. لكن الروح كالبصمة لا يمكن أن تلتبس بأحد أو يدلّس فيها أحد أو يطمسها أحد !! وليس العيب في أن يضرب المرء في الأرض بحثا عن العيش الرغيد والرزق الحلال بل هو أمر مندوب كما دعا الله في أخذ العبرة : ( قل سيروا في الأرض .. ) وقال : (والذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ..) وقد ذكر الله من أمر الرحلة في القرآن الرحلة التي كانت تقوم بها قوافل قريش إلى اليمن والشام .. ( لإيلاف قريش .. إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ..) وقد جعل الله للرحلة والخروج في طلب المعالي عظيم الأجر والثواب فقال : ( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرة وسعة .. ) لكن العيش ليس في بيت نسكنه ولا مركب نركبه ولا في ساعة نقتنيها , ولا في قلمٍ معلقٍ نتباهى به !
إن الشعب المتعلم الذي تفتحت رؤاه على الحياة جيدا يعرف متى يغترب .. وإلى أين يغترب .. ولماذا يغترب .. ويعرف أيضا متى يعود إن كان في روعه أن يعود !
يجلس إليك بعض الأشقاء من العرب فيحدثك بأكثر من لسان .. يقول لك : لقد قرأت الرواية الفلانية بلغة الكاتب الأصلية , وقرأت قصيدة أخرى للشاعر الفلاني بلغته الأم ! فما أبعد الشأو بين لغة الأديب ولغة المترجم !
اليمني يخرج إلى الغربة سليم الفطرة , نقي السريرة .. تتدفق مياه الحياة النضرة في عروقه ومخيلته ! فيرجع بعد أعوام وقد نضب الماء فليس في كلامه حلاوة , وقد احترق العصفور فليس في مجلسه فرح .. حلَّ الشك في سويداء قلبه , وصار كل من يصافحه أو يعانقه بصدق نفعيٌّ كاذب الوجه !! وراح يتبرم بالزائرين فأخذ الوقت كله في سرد المواقف المؤلمة في الغربة من جشع الجشع ومن ذل العزيز ومن إهانة الكريم حتى ينفض المقيل ويحل السامر بقلب مفجوع ورأس متصدع موجوع !
قلنا نصنع بيتا يمنيا في الأدب .. لأن الأدب حياة القلوب , وروضة النفوس , وصقيل العقول كان الزيات رحمة الله عليه يقول : ( إن في ظهور كل دين ثورة , وفي قيام كل دولة ثورة , وفي نشوء كل مذهب ثورة , وفي طموح كل نفس ثورة , ومظهر هذه الثورات جميعا هو الأدب ! فحيثما نجد الأدب نجد الوعي .. وحينما نجد الوعي نجد التقدم ) (وحي الرسالة 4/259-مطبعة دار الثقافة )

صديق لي كان يحفظ القرآن فاغترب ثم بعد مدة , فتح بسطة أو بسطتين فجاء يفاخر مستفزا يظن وقتي نهبة لمن شاء : لقد نجحت في غربتي !
أنا لم أغترب من أجل بناء بيت وإن كان البيت ضروريا ولم أغترب من أجل أن أوفّر ثمن الطحين أو الغاز !!
لقد أخذتُ على نفسي عهدا أن أفنى في خدمة الفكر والمعرفة والأدب .. وأن أورد قلمي المهالك فأتقحم به النار من الحرمان فلا أداهن ولا أجامل . فإن لم أتوفر على فكرة جديدة أو أن أختط منهجا في الكتابة جديدا يقوم به حق ويهوي به باطل .. يأنس به مضطرب أو يرجع به شارد أو يأمن به خائف أو ينهض به عاثر , فلا حملتني قدماي إلى يمن, ولا نبض قلبي بعشق وطن .
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه .. وأيقن أنّا لاحقيْن ِ بقيصرا
فقلتُ له : لاتبكِ عينـُك إنـِّما .. نحاولُ ملكاً أو نموتُ فنُعذرا