الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٨:١٥ صباحاً

بلقيس الملكة .. في خاصرة المملكه

بشير المصباحي
الخميس ، ٠١ يناير ١٩٧٠ الساعة ٠٣:٠٠ صباحاً
لقد ظل إخواننا وأشقاءنا الخليجيون يخافون على حدودهم مع اليمن منذ أحداث ثورة 26/ سبتمبر 62م وما تلاها من أحداث وتطورات على المشهد السياسي في اليمن حتى وقتنا الراهن ، ومع ذلك الخوف فقد ظلت أنظارهم تترقب إنتقال الأحداث وتأثير المنعطفات التأريخية التي تحدث لدينا على شعوبهم وبلدانهم ، خشية تغيير التركيبة الجيوسياسية لتلك البلدان الشقيقة.
ولم تدخر المخابرات الإقليمية مع ذلك الترقب جهدا فقامت بالعمل الدؤوب من أجل تعزيز تلك المخاوف لدى قيادات الخليج العربي من أجل تحقيق مكاسب إقتصادية وسياسية لبلدانها من هذه الدول الغنية بالنفط وذلك على حساب الجارة المغلوبة على أمرها الجمهورية اليمنيه وحاضر ومستقبل أجيالها.
ولم تتوانى الدول العظمى عن إستغلال الأمر لبناء إستراتيجيتها وتعزيز نفوذها في المنطقة فسخرت كل إمكانياتها ووسائلها الإعلاميه المختلفة لتصوير اليمن وكأنه موطن للأشباح لا مجال للإستثمارات العملاقة فيه ولا وجود للأمن والإستقرار في هذا البلد .
فتمت محاولة تشبيه اليمنيين وكأنهم ديناصورات على وشك الإنقراض بعقول متحجرة لا يعرفون سوى لغة العنف ومنطق القوة والإرهاب.
ومع الإشارة إلى تلك المغالطات التأريخيه فإننا لا ننكر أن إنتشارها بهذا الشكل الخاطئ وتعميم النظرة القاصره عن أبناء قحطان وعدنان وحفيدات بلقيس وأروى ما كانت لتجد صدى للإنتشار بذلك الشكل المخزي والمغاير للواقع تماما لولا العوامل المحلية الناتجة عن سوء الإداره والتي مثلت أكبر عائق أمام لنمو الإقتصادي ، حيث أن السياسيين أعتمدوا على محدودية الموارد في الدولة للسباق على مراكز النفوذ والقوة في البلد بدلا من تعزيز حضورنا الإقتصادي وإستخراج مواردنا وإستغلالها بما يضمن الحياة المزدهرة والكريمة لأبناء الشعب اليمني.
فتهيئت بذلك البيئة الخصبه لتمرير الشائعات الكاذبه وتشويه الحقائق عن هذا البلد العظيم ، فأصبح رجال الأعمال والبيوت التجارية الخارجية ناهيك عن الرأسمال الوطني مقيدين بتلك التحليلات السياسية والصحفية الخاطئة والمليئة بالحقد والكراهية إتجاه اليمن وأبناءها الكرام ، فحرمت اليمن من ألاف الفرص الإستثمارية المستحقة بمليارات الدولارات وأتجهت تلك الإستثمارات نحو بلدان أخرى كانت بلادنا هي الأنسب لإستقبال تلك المشاريع كلفة ونجاحا.
ومع ذلك الغموض في تصوير الحقائق وبثها بطرق مغايرة ومعاكسة لجوهرها فإن الأمر يبدو اليوم مختلف تماما عن تلك المغالطات المشبوهه التي تم نقلها من خلال التقارير الإستخباراتية الدولية والإقليمية ، والتي لا تتطلب إثباتا لذلك سوى بالعودة قليلا من قبل إخواننا الخليجيين إلى الوراء وسيجدون حينها أن اليمنيين لا يحملون أي أطماع توسعيه ولا يحبذون التدخل في شئون الأخرين مطلقا وذلك مع إختلاف وتنوع الحضارات المتعاقبة التي قامت على هذه الأرض الطيبة كما وصفها الخالق سبحانه وتعالى.
فاليمنيون يتحدون حينا ويتمزقون أحيانا أخرى ثم ما يلبثوا أن يعودوا لوحدتهم التي تفرضها ضرورات البناء والتنمية والثقافة المشتركة بعيدا عن أي حسابات خارجية أخرى.
هذه الرسالة يفرضها الواقع منذ ألاف السنين وتبدوا أكثر وضوحا وإشراقا من ذي قبل في ظل الأحداث الراهنه إلى كل من يبحث عن حقيقة حضارة وتأريخ مملكة سبأ الممتدة لأكثر من ثلاثة ألاف سنه.
اليوم في اليمن هناك غياب كامل لرموز النظام السياسي في البلد فلا رئيس للدوله ولا قيادة للحكومة ولا رئيس مجلس النواب ولا وجود لمن يدير البلد حتى هذه اللحظة وفقا للأعراف الدستورية والقانونية .
أضف إلى ذلك إمتلاك اليمنيين لأكثر من ستون مليون قطعة سلاح بحسب بعض الإحصائيات الخارجيه ، يصاحب ذلك إنتشار واسع للفقر والبطالة وزيادة معدلات الأميه ، والأدهى من هذا كله بروز قوى النفوذ والمصالح بشكل صريح ومعلن على الساحه ( القبلي منها والعسكري والسياسي ) على إتجاهاتهم وتناقضاتهم المختلفة.
اليوم وبعد خمسة أشهر من الأزمة الخانقة في البلد أنعدمت معها كل مقومات الحياة الطبيعية وأزدادت فيها حدة التوترات السياسية وطغت على المشهد الداخلي التدخلات الإقليمية والدوليه.
بعض تلك الأسباب قد تكون مدعاة لحرب أهليه في بلد ما ، فما هو الحال بإجتماعها دفعة واحده وفي ظل هذه الظروف الراهنه ، هذا هو الأمر الذي راهن عليه الكثيرون لتحول اليمنيين إلى إستخدام العنف ضد بعضهم البعض .
ولكننا وأمام الإنتماء الصادق لحضاراتنا القديمة والمتعاقبة كنا أقوى بكثير من كل عوامل الجهل والتخلف الذي يبحث الكثيرون عن إلصاقها بأبناء الشعب اليمني الحر ، فسلاح حضارتنا الصامت هو الذي منع شبح الحرب الأهلية من الإندلاع وكان أبلغ تأثيرا من أصوات البنادق والمعدلات والمدافع .
كما أن إختلافنا في رسم حاضر ومستقبل أمتنا اليمنية العظيمه لا يمنعنا من الحفاظ على وحدتنا المتأصلة في النفوس والمتجسدة في ثقافتنا اليمنية الأصيلة النابعة من موروثنا الحضاري المشرق الذي يمد كل قوانين ودساتير العالم بالروح الحية والمضمون الفعلي لحقيقة المدنية العصريه وفقا لمبدأ التعايش السلمي بين الشعوب وإحترام الرأي والرأي الأخر وكفالة حق الجوار والمصير المشترك ونبذ الحقد والكراهية من أخلاقياتنا الأصيله.
فحضارتنا قامت على تلك المبادئ التي أسست مداميك بنيانها القوية والشامخة أمنا الغالية وملكتنا العظيمة بلقيس رحمة الله تغشاها ، لنتوارثها من بعدها أخلاقا وقيما نتربى عليها منذ الصغر ونتشربها منذ نعومة أظافرنا مثلما نتشرب حليب أمهاتنا الذي لا يمكننا أن ننعم بحياة سوية من دونه.
صنعاء أقدم مدينة في التأريخ مدينة سام إبن نوح عليه السلام تتحدث اليوم عن نفسها وأمجادها وتأريخ شعبها العريق في ظل ما تواجهه من مؤامرات ودسائس ومخاوف وإبتزاز وتدخل في شئونها ، إلا أنها وبالرغم من ذلك كله تحتضن أبناءها بمختلف توجهاتهم وإتجاهاتهم الفكرية والسياسية والإجتماعية وبأبعادهم الجغرافية والتأريخية المترامية على كل أنحاء اليمن السعيد وبما يمتلكونه من موروثات حضارية هائله من سبأ وحمير وحضرموت وأوسان ومعين وقتبان وغيرها من الحضارات التي شيدت بنيانها على أقدم ناطحات السحاب في العالم وأعتمدت على سواعد أبناءها في إعمار الأرض وبناء الحواجز والسدود التي منحتها الإكتفاء الذاتي من منتجاتها وصدرت الفائض منه إلى الخارج وتأسست فيها الأسواق التجارية لتكون أهم مرتكز لطرق التجارة العالمية فجمعت بذلك بين الشرق والغرب.
هاهي اليوم تستعيد ذلك المجد التليد في أعماق التأريخ وتحتضن أبناءها وتمنحهم الحب والإطمئنان كي يعيشون في كنفها أخوة متحابين إنطلاقا من كينونة تلك المبادئ العظيمه التي تتجلى اليوم في أروع صورها ويلاحظ ذلك المواطن والزائر على حد سواء ، فشوارع صنعاء تبدو أكثر أمانا وتتنقل فيها بكل حرية وتسافر منها وإليها بكل سهولة ويسر من دون أدنى شعور بالخوف ... تحدث نفسك في الطريق عن حضارة هذا الشعب الضاربة في جذور التأريخ فتشاهد صورها الحية على قمم الجبال وفي سفوح الأودية وفي الصحاري والبحار العميقة وتشعر معها وكأنك في ضيافة الأخلاق وتساير الخيال في محاكاة بديعة للزمن البعيد الذي يمنح الحماية لكل من يرافقه ويغوص في ثناياه ويستظل بسماءه الوارفة الظلال فلا تشعر مع ذلك بحاجة لتصريح مرور ولا حماية أو مرافقة من أحد.
اليوم تجد اليمنيون يأكلون على سفرة واحده ويشربون من منبع واحد فأصحاب القناعات المختلفة يركبون حافلة واحده ويتجاذبون أطراف الحديث وعندما يختلفون تجمعهم الروح الوطنية التي يلتقي عندها الجميع ، وعندما تنقطع الكهرباء أو تختنق البلد نتيجة عدم توفر الطاقة بسبب إنعدام المشتقات النفطية أو ندرة المواد الإستهلاكيه والخدميه فإن جميع اليمنيين يتقاسمون نفس المعاناة.
وهكذا فإن اليمني لا يمكن أن يقتل أخاه مهما أختلف معه في وجهات النظر ومهما وصلت درجات التناقضات في الرأي ، فإن ذلك لا يتجاوز كونه إختلافا لحظيا بسطحية بسيطه سرعان ما تتلاشى بالإحتكام لصوت العقل والمنطق ولغة الحوار وأدبياته ومصلحة الوطن وقواسم العيش المشتركة التي يلتقي عندها كافة أبناء الوطن اليمني الواحد.
هذه هي أخلاق اليمنيون التي لا يعرفون سواها تعبر عنها أمالهم وتطلعاتهم في العيش الكريم والمستقر وممارسة حرياتهم على أرضهم التي توارثونها عن أجدادهم بسيادة وإستقلال ، محبين لجيرانهم ويحترمون ثقافات وأديان شعوب العالم قاطبة بكل تنوعاتها وإختلافها المبنية على الإحترام المتبادل وعدم التدخل في شئون الأخرين إنطلاقا من قاعدة لا ضرر ولا ضرار.
حري بنا ونحن نكتب هذه الأسطر أن نوجه رسالتنا الحضاريه إلى دول العالم وفي مقدمتهم إخواننا الخليجيين والسعوديين على وجه الخصوص ونقول لهم إن إرث هذا الشعب العظيم وموروثه الحضاري والتأريخي هو الذي وقف سدا منيعا أمام الإنخراط في دوامة العنف والصراعات الداخلية وإنتشار الفوضى لا سمح الله .
وبالتالي فإن شعب كهذا يحمل هذه الرسالة الحضارية إيمانا وإعتقادا وأخلاقا وممارسة تجذرا ونموا ، لا يمكن أن يمثل في يوم من الأيام مصدر خوف أو قلق على جيرانه مهما على شأننا أو أستعدنا مكانتنا المستحقة بين شعوب العالم والتأريخ خير شاهد على ذلك ، بل إن الأبعد من ذلك أن تطور المجتمع اليمني وتقدمه سوف يكون بمثابة الدرع الواقي لصدور جيراننا الخليجيين والعمق الإستراتيجي لأمن وإستقرار دولهم والمخزون البشري الهائل في الشدة والرخاء.
كما أننا نذكر إخواننا الأشقاء في المملكة العربية السعوديه بأن اليمن لم ولن يكون صومالا أخرا بإذن الله تعالى حتى يثقل خاصرة جارتنا الكبرى ، وإنما ستظل أرض بلقيس الملكة العظيمة في خاصرتكم على مر العصور والأزمان بأخلاقها العظيمة وثقافتها العالية وتنوع موروثها الحضاري الذي يشع نورا ومحبة لكل من حولنا مهما تغيرت القيادات والوجوه أو الحكومات والأشخاص.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل ( أتاكم أهل اليمن هم أرق قلوبا وألين أفئدة ، الإيمان يمان والحكمة يمانية ).