الخميس ، ١٨ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٨:٤٩ مساءً

بين عهدين...من القمة إلى القاع

محمد المخلافي
الجمعة ، ٠٧ سبتمبر ٢٠١٢ الساعة ٠٨:٤٠ صباحاً
إن إدارة أي دولة لفترة من الزمن يلازمها بصمات انجاز مهما كان نوعها (سلبية أو ايجابية) لرجل الدولة الأول سواء أكان رئيسا أو ملكا...الخ، بل أنها ترتبط به وباسمه حتى لو رحل أو حتى بعد وفاته، فكلما ذكر ذلك الانجاز ذكر اسمه وقيل هذه من بصمات الرئيس فلان، ويسجل في تأريخه بأحرف من نور، ويذكره أبناء شعبه بعبارات الشكر المديح والدعاء، وإن كان قصورا يرتبط اسم ذلك الرئيس بعمله الفاشل ويذكره أبناء شعبه بعبارات الذم والشتم، ويسجل تأريخه بسيئ العبارات.

وفي اليمن تولى الحكم مجموعة من الرؤساء سواءً في شمال الوطن أو جنوبه قبل تحقيق الوحدة المباركة سنة 1990م وفي فترات قصيرة لكل منهم بسبب الاغتيالات والانقلابات المصاحبة في تلك الفترة وتوقفت عمليات الاغتيال والانقلاب في عهد الرئيس السابق في اليمن الشمالي قبل تحقيق الوحدة المباركة و بعد تحقيقها، وهنا سنسلط الضوء على فترتي حكم الرئيس إبراهيم الحمدي والرئيس السابق علي عبدالله صالح نظرا لتعاقب فترتي الحكم على الرغم من أن الرئيس الغشمي هو التالي لحكم اليمن بعد الحمدي إلا أن فترة حكمه كانت قصيرة، لذا فقد تجاوزنا هذه الفترة وانتقلنا إلى فترة حكم الرئيس السابق صالح.

لقد أسس الحمدي دولة النظام والقانون ونظام اقتصادي وبنية اقتصادية قوية خلال فترة لا تتجاوز 41 شهرا، ففي عهده شهدت اليمن تحولات اقتصادية أثارت إعجاب العالم أجمع، فالتحولات التي شهدها الاقتصاد اليمني في عهد الحمدي دفعت مدير البنك الدولي حينذاك إلى القول بان اليمن الاقتصاد اليمني سيظل مستقرا خمسين عاما، ولكن كيف قاد الحمدي مؤسس الدولة المدنية الحديثة اليمن اقتصاديا.

إسرار نجاح الحمدي في قيادة التحول الاقتصادي في اليمن تحيكها الأرقام فالرئيس القادم من المؤسسة العسكرية أدار البلاد بعقلية مدنية فريدة استفاد من نقاط ضعف الاقتصاد اليمني حينها وعززه باقتصاد المؤسسات، ففي عهده شهدت اليمن حراك تجاري غير مسبوق واستقبلت ألاف المستمرين المحليين والأجانب، ففي عهده حقق القطاع المصرفي نموا متصاعدا بلغ 80% فتم تأسيس عدد من البنوك بعد السيطرة على حالة التضخم والحول دون تدهور أسعار العملة الوطنية حيث أستقر سعر الدولار إلى ثلاثة ريال يمني، ومن أجل تعزيز فرص نمو القطاع الصناعي فقد تم إنشاء أول بنك صناعي في اليمن عام 1976م برأس مال 88.6 مليونا بهدف دعم قطاع الصناعة في البلاد، بالإضافة إلى إنشاء بنك التسليف الزراعي عام 1975م برأس مال مدفوع بلغ 110 ملايين ريال وإنشاء البنك المركزي اليمني، وبدأت اليمن تصدر منتجات غذائية صناعية إلى جانب المنتجات الزراعية التي كانت بمثابة العمود الفقري للصادرات اليمنية، وتأسيس بنك التسليف للإسكان بغرض دعم المواطنين والدفع بعجلة القطاع العقاري إلى الإمام، ونظرا للحراك الاقتصادي والتجاري الذي اقترن بعهد الحمدي اتسع القطاع المصرفي، حيث افتتح بنك اندوشين والسويس عام 1975م وبنك سيتي بنك في نفس العام وبنك الاعتماد والتجارة الدولي في نفس العام بالإضافة إلى عشرات الشركات العامة والخاصة، وأصبحت اليمن في عهد الحمدي من الدول الدائنة حيث قدمت اليمن قروض لبعض الدول ومنها فرنسا وللبنك الدولي بمليارات الدولارات.

وفي مجال التجارة الخارجية تشير الإحصائيات إلى أن قطاع القطن حقق نموا ملحوظا بلغ 36% في عهد الحمدي واحتلت صادرات القطن المرتبة الأولى من الصادرات وبنسبة 52% ونظرا للجدوى الاقتصادية لصادرات القطن تم استحداث بند خاص في الموازنة العامة للدولة أطلق عليه بند القطن والذي اختفى من قائمة الصادرات عقب استشهاده، وحققت صادرات البن أعلى مستوى لها عام 77م، حيث ارتفعت صادرات اليمن من البن إلى الأسواق الخارجية من 6,6 ملايين إلى 48,1 مليونا.

وفي عهد الحمدي ارتفعت النفقات الإجمالية الجارية والاستثمارية في عهد الحمدي من 657 مليونا عام 1974م والتي مثلت 17% من إجمالي الدخل المحلي الإجمالي إلى 2417 مليونا عام 77م نسبة 29% من الدخل المحلي الإجمالي، وحظي قطاع التعليم باهتمام كبير حيث بلغ متوسط الإنفاق الجاري السنوي على التعليم خلال عهد الحمدي 31% في حين بلغ متوسط الإنفاق الجاري السنوي على الصحة 12%، وفي جانب الإيرادات الضريبية في عهد الحمدي فقد حققت نموا مضطردا خلال الفترة حيث بلغت إيرادات الضرائب المباشرة 73,1% عام 77م مقابل 18,9% عام 73م، وفي الجانب الآخر ارتفعت إيرادات الضرائب غير المباشرة من 139,5 مليونا عام 73م إلى 1001,1 مليون عام 77م.

ومن أهم انجازات الحمدي إنشاء شركة الاتصالات (تيليمن)، التلفزيون اليمني, الخطوط اليمنية, شركة النقل الجماعي، واستكشاف النفط واستخراجه, وبناء محطتي كهرباء في المخا ورأس عيسى كمحطات كهرباء لليمن بأكمله, وبناء قصر الرئاسة ومطار صنعاء وميناء ومطار الحديدة وجامعة صنعاء والعديد من المدارس والمركز الثقافي والمستشفى العسكري في صنعاء, وشق وسفلتة العديد من الطرقات والشوارع، وإنشاء ساحة العروض بميدان السبعين، وإنشاء الجهاز المركزي للمراقبة والمحاسبة ومبنى الجمارك والضرائب، وأسس سلاح الجو والدفاع الجوي, وتوقيع مسودة إعادة بناء سد مأرب مع الشيخ زايد وانجاز العديد من الطرق الرئيسية بين المحافظات وبعض الطرق الفرعية, وبناء المدارس ومجانية التعليم وتحديد المهور, ومنع السلاح, وجرى أول تعداد سكاني في عهده، ولم يغفل عن جانب الوحدة مع الجنوب فقد تم توقيع العديد من الاتفاقيات والمعاهدات مع الجنوب لإعادة تحقيق الوحدة المباركة.

في عهد الحمدي اعتز كل مواطن يمني بانتمائه الوطني وبقائده الحمدي سواء داخل الوطن أو خارجه، فقد كان الحمدي رجلا يحمل مشروعا يمنيا صادقا نحو بناء الدولة، ونبذ كل أشكال المناطقية والعنصرية القبلية والجهوية، وقائدا شجاعا في مواجهة الرافضين للتغيير والثورة، وزعيما يرفع للأرض والحياة والإنسان في اليمن، رجلا ورئيسا وقائدا وزعيما يحمل ألما بصدق، وأملا بحق نحو الوطن.

من خلال والانجازات والأرقام يتضح أن لا مجال للمقاربة بين الماضي الذهبي الذي لم يتجاوز 41 شهرا والحاضر القريب المتردي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا في 33 عاما من عهد حكم صالح، فقد تسلم صالح مقاليد الحكم اليمن بعد مقتل الرئيس الغشمي عام 1978م واستمر صالح في حكمه حتى عام 2012م، وهنا نسلط الضوء على أهم الانجازات فترة حكم صالح التي لا تعد ولا تحصى حيث كانت في معظمها هبات وقروض ومنح من الخارج فقد بلغت ومديونية اليمن الخارجية نحو 6 بلايين و115 مليون دولار حتى نهاية نوفمبر 2011م، أما البصمة الحقيقية والتي لن تنسى وهي أن الفساد قد نخر مفاصل الدولة في كافة المجالات وبلا استثناء, وبنية تحتية ضعيفة ومستوى اقتصادي متدني، وتدهور العملة الوطنية حيث أصبح سعر صرف الدولار في عهده إلى ما يقارب 240 ريال يمني، والأدهى من ذلك جميعا انه في هذه الفترة من نظام صالح سجلت اليمن ضمن الدولة الفاشلة وكذلك ضمن الدول الأكثر فسادا في العالم وأكثر الدول فقرا وأمية وجهل وتخلف وديون ...

اشتهرت اليمن لعقود من الزمن بزراعة البن وتصديره إلى الخارج ولكن في عهد صالح استبدل المواطنين زراعة البن بزراعة القات الذي قضى على زراعة البن واستنزف المياه الجوفية وترك أثاره السلبية على دخل المواطن اليمني وعلى الاقتصاد الوطني، وفي عهده بيع الغاز بأرخص الأسعار للكوريين وكبدت اليمن خسائر بأكثر من ستون مليار دولار، وفي عهده تم تأجير ميناء عدن لشركة موانئ دبي العالمية في صفقة فساد من الطراز الأول، وحكاية الاستثمار لانهاية لها و ما عرف بــــ"الشراكة مع المستثمر: أنت برأس مالك وأنا بحمايتي لك" وهو ما جعل الكثير من المستثمرين اليمنيين يعزفون عن الاستثمار في اليمن ويتحولون إلى دول الجوار لوجود البيئة الخصبة للاستثمار فيها.

وفي المجال الأمني فقد ساهمت الدولة الفاشلة في تلاشي الأمن وانتشار السلاح حتى وصل أن بعض القبائل والشخصيات المتنفذه تملك ما يملكه بعض الألوية والمحاور العسكرية إذا ما استثني من ذلك الطيران, واختلاق ما يسمى بتنظيم القاعدة حتى أصبحت اليمن منبعا الإرهابيين في نظر العالم كل ذلك أجل الابتزاز المادي من الدول الداعمة لمكافحة الإرهاب وتقديم الدعم للقوات العائلية في مجال التدريب والأسلحة المتطورة، بل وصل الأمر إلى سيطرة هذا التنظيم على بعض مدن محافظتي أبين وشبوة لأكثر من عام وبعلمه وإشرافه على ذلك.

ومن انجازات صالح بناء جيش ذو ولاء عائلي وعمل على إفراغه من عقيدته الوطنية إلى العائلية، فقام ببناء قوات مسلحة (الحرس الجمهوري العائلي) بداخل القوات المسلحة الوطنية وقوات أمن (الأمن المركزي والأمن القومي العائلي) بداخل قوات الأمن العام وعين على هاتين المؤسستين الوطنيتين أفراد عائلته وأبناء منطقته وكان القائد الأعلى لها، ويضاف إلى انجازات صالح هو أنه شجع مبدأ التناحر الداخلي وذلك بأحياء الثارات وزرع الفرقة والشقاق بين أبناء الأسرة الواحدة, والثارت المناطقية والعنصرية القبلية والجهوية, واهم شيء صنعه هذا النظام انه وبعد تحقيق الوحدة تلاها بالحرب الأهلية في صيف94م وبعدها تمت عملية نهب الأراضي في عدن وإقصاء للقيادات العسكرية والوظيفة العامة لأبناء الجنوب، كما أن الوحدة الوطنية تعرضت لأكبر نكسه وشرخ في اللحمة الداخلية للشعب بسبب كره أبناء الجنوب للنظام حتى وصل بعضهم إلى حد كره الوحدة والمطالبة بالانفصال, وأدخل اليمن في ستة حروب طائفية في صعدة كان يشعلها ويطفئها بسماعة الهاتف وقد وراح ضحيتها الآلاف من أبناء القوات المسلحة وأبناء الوطن وشردت الآلاف من الأسر حتى يومنا هذا وكل ذلك من أجل مصالح شخصية دنيئة والابتزاز المادي من دول الجوار.

كان صالح يحرص على تهجير اليمنيين إلى دول الخليج ودول العالم حيث وصل عدد المغتربين في عهده إلى ما يقرب عن خمسة ملايين مغترب في جميع إنحاء العالم، ولا مجال للموهبة والإبداع والابتكار والاختراع في عهد صالح فبحث اليمنيين عن وطن غير وطنهم الأم يجدون فيه من يحتضنهم وإبداعاتهم ويهتم بمواهبهم.

لكن الإنجاز الأكبر والحقيقي الذي فعلا صنع في عهد نظام صالح هو خروج هذا الشعب في ثورة شبابية شعبية سلمية في فبراير 2011م واستطاعت إسقاطه وإسقاط مشروع قلع العداد والتوريث الذي كان يعد له وتتويج نجله أحمد بالحكم من بعده, فقد وقد خرج الشباب من جميع محافظات الجمهورية إلى ساحات الحرية والتغيير، هؤلاء الشباب الذين لم يعرفوا سوى صالح لليمن منذ مولدهم، الأمر الذي جعلهم يثوروا ضده عندما رأوا مستقبلهم ومستقبل الأجيال القادمة بفعل التوريث يضيع وعودة الملكية من جديد ولكن بثوب جديد بما يسمى بالديمقراطية من خلال الانتخابات المزيفة التي يعرفها أبناء الشعب لكن شباب اليمن حطموا تلك الآمال والأماني بفعل الثورة الشبابية الشعبية السلمية والتضحيات التي قدمها أبناء شعبنا العظيم فقد سقط أكثر من ألف وخمسمائة شهيد وجرح الآلاف من أبناء الوطن...

رحم الله الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي ورحم الله شهداء الثورة الشبابية الشعبية السلمية وكل شهداء الوطن، ونسأل من الله القدير الشفاء للجرحى من الثوار...