الثلاثاء ، ٢٣ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٨:٠٩ مساءً

التغير الحقيقي . . . (سحرة فرعون أنموذجا)

عبدالرقيب اليوسفي
السبت ، ١٣ اكتوبر ٢٠١٢ الساعة ٠٩:٤٠ صباحاً
إن التغيير الذي خرجنا للمطالبة به هو التغيير الجذري الذي كنا نرجو أن يغير حياتنا وواقعنا المرير -الذي كنا نعيشه- إلى ما هو أفضل, وهذا يعني حدوث تغييرا حقيقيا في السلوكيات والتصرفات لكل طبقات المجتمع بما يتناسب والواقع الجديد الذي يفترض أننا أصبحنا نعيشه, حيث أن تغيير الأشخاص بسواهم مع بقاء الأفكار والتصورات كما هي لا ينتج تغييرا في حياة الناس, بل قد يؤدي إلى رد فعل عكسي وينتج يأسا من عملية التغيير التي طالب بها الشباب, وقدموا لأجلها التضحيات في الأرواح والأموال والجرحى, وهذه هي النقطة التي بدأنا نشعر أن البعض يدفع بنا إليها لنعلن كفرنا بالتغيير وبالثورة ونعلن استسلامنا للحالة المتأرجحة ما بين الآمال الكبيرة التي نحملها وبين الواقع المتأزم الذي نعيشه.

وهنا لا بد من القول أن كل من يؤمن بالتغيير لا بد وان يؤمن أن التغيير يبدأ أولا من داخل نفسه, ويجب أن يعمل جاهدا على تغيير سلوكه وتصرفاته في هذه المرحلة كما يعمل كذلك على تغيير سلوك غيره بالتوجيه والنصح ورسم المثل الجيد لهم حتى نصل إلى إحداث تغيير حقيقي في حياتنا وواقعنا نلمس انعكاسه على مستوى معيشتنا وأمننا وكافة تفاصيل حياتنا اليومية.

وإذا أردنا أن نأخذ مثالا واضحا على صحة ما أسلفنا, فإننا يجب أن نتوجه إلى الدستور الإلهي فسنجد في طياته ما يكشف لنا الحقائق ويضع لنا الإضاءات الحية الحقيقية لتهدينا إلى مكنوناتها وأسرارها وترينا السبيل الواضح البين, نخطو على إشاراته المرورية الربانية الهادية, ونتعلم فلسفة الحياة وسننها وقوانينها الكونية والنفسية, والإشارة التي نطلب في هذا المقام هي الإشارة إلى قانون التغيير في حياة الفرد والجماعة وسنجد هذه الإشارة في قصة سحرة فرعون –لعنه الله- والتي ذكرها وفصلها القرآن منوعا الأساليب والسور الواردة فيها وسنستعرض هذه القصة بعد تقسيمها إلى مشهدين اثنين تفصل بينهما لحظة واحدة حاسمة هي اللحظة التي ولد فيها التغيير.

ويبدأ المشهد الأول بعد أن تم الاتفاق بين النبي موسى –عليه السلام- وفرعون على موعد –يوم الزينة- للالتقاء لأجل الفصل في قضية الادعاء الذي فجره موسى بأن الإله ليس فرعون وإنما هو الله وحده وانه مرسل من عنده لهدايتهم ولإثبات صدق الآيات التي أتى بها كدلائل على صدقه ومنها العصى التي تتحول إلى ثعبان, فعمد هذا الكافر إلى استدعاء كل عمالقة السحر في بلاده لمواجهة موسى, وفعلا حضر من حضر منهم وعندما مثلوا بين يديه ورأوا من سلوكه ما يدل على حساسية الموقف وفهموا أنه يضع عليهم كل أمله في هزيمة موسى وإلقامه حجرا وكشف ادعاءه –كما كان يتصور- ليحفظ بذلك هيبة ملكه وإلوهيته المزعومة, قرروا أن يستغلوا هذا الموقف ويخرجوا منه بأعلى المكاسب الدنيوية ولذلك كان منطقهم كما صور ذلك القرآن الكريم, قال تعالى: ﭽ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﭼ الأعراف: ١١٣ فهم يطلبون منه أن يمنحهم أجرا إن هم هزموا موسى –عليه السلام- فيجيبهم فرعون باستعلاء وكبر يدل عليه منطقه حيث يقول القرآن : ﭽ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﭼ الأعراف: ١١٤ فهو يوافقهم على طلبهم ويضيف على ذلك وعدا آخر بأن يجعلهم من خاصته ومقربيه ليزيد طمعهم ويحثهم على إنجاز ما يطلبه منهم.

وينتهي المشهد الأول باللقاء في الموعد المحدد, والسحرة يلقون حبالهم وعصيهم ثم يمارسون أعظم السحر للتأثير على أعين الناس وإيهامهم أن ما يفعلونه حقيقة, ثم إلقاء موسى –عليه السلام- لعصاه والتي فجرت المفاجأة المذهلة أمام أعين الحاضرين بما فيه السحرة وهي تتحول إلى أفعى ضخمة أخذت تبتلع كل الحبال والعصي في مشهد حقيقي ليس فيه سحر, وهو ما أدركه السحرة لأنهم يعلمون السحر وألاعيبه وهنا نحدث المفاجأة الكبرى والتي وقعت على فرعون كالصاعقة ﭧ ﭨ ﭽ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭼ الأعراف: 117-١22

وهنا يبدأ المشهد الثاني والذي ينقل الصورة المغايرة للسحرة وتغير سلوكهم وتصرفاتهم, مشهد يصور حالة الانقلاب الفكري والسلوكي في حياة السحرة, وكيف انقلب هذا السلوك وتغير وتغيرت معه تقديراتهم للأمور وتغيرت شخصياتهم تغيرا جذريا من النقيض إلى النقيض وبزاوية 180° هذا التغير المذهل والذي حصل في لحظات لم يكن فرعون يحسب له حساب, فبمجرد أن رأى السحرة ما فعلته عصى موسى –عليه السلام- في كل ما ألقوه, وتبين لهم –بخبرتهم- أن ما يشاهدوه منه ليس سحرا, خروا ساجدين, وأعلنوا إيمانهم برب موسى وهارون, حيث كان هذا إعلان كفرهم وبراءتهم من ربوبية فرعون وإلوهيته, وعندما خاطبهم فرعون مهددا ومتوعدا ومتهما إياهم بالخيانة والاتفاق مع موسى, لم يلقوا لكلامه بالا ولم يعيروه اهتماما, ولنصغ إلى القرآن وهو يقص علينا ما حدث بأسلوبه البديع ﭧ ﭨ ﭽ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﭼ الشعراء: ٤٩ وفي المقابل يعرض القرآن موقفهم من كلامه وردهم عليه ﭧ ﭨ ﭽ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﭼ طه: ٧2: ٧3

هكذا تعرض علينا هذه القصة كيف أن تغيير الأفكار والتصورات يؤدي إلى تغيير جذري في السلوكيات والتصرفات, فعندما كان السحرة يتصورون أن فرعون هو الإله والملك ويقرون بذلك ويؤمنون به فإن سلوكهم ينتج عن هذا التصور, فكانوا يمارسون السحر بأمره ولأجله, ويقيسون الكاسب بمقياسه, وكانت أهدافهم تدور في فلكه, وكانت غاياتهم ملتصقة بالأرض وحقارتها, فمجرد قليل من المال والقرب من فرعون كان يمثل أقصى غاياتهم ومنتهى آمالهم.

ولكن عندما تيقنوا من صدق موسى –عليه السلام- وانكشف لهم زيف ما يمارسونه من السحر وتبينوا كذب فرعون وظلمه, أي تغيرت تصوراتهم, فموسى نبي وفرعون كاذب أفاق وبالتالي صدقوا موسى وآمنوا به وبربه وأصبح ما كانوا يمارسونه من السحر خطايا, وفرعون مجرد بشري ظالم متسلط ولم يعد لهم بإله وأنما إلههم هو رب موسى وتغيرت تبعا لذلك أهدافهم فهدفهم الأسمى هو المغفرة من الله للخطايا, وتغيرت كذلك سلوكياتهم فتركوا السحر, ولم يعد الموت يعني لهم شيء في ظل الإيمان بالآخرة, والدنيا لا تساوي في نظرهم شيئا,وهم مستعدون لتحمل كل تبعات التغيير مهما كانت مؤلمة وشاقة, إن تفكيرهم الدنيوي أضحى هما أخروي, وارتباطهم بالأرض أصبح تحليقا في السماء, وإيمانهم بفرعون أصبح كفرا به وإيمانا برب موسى, وممارسة السحر الذي كان حياتهم أصبح خطايا يطلبون من الله مغفرتها, وقرب فرعون أصبح كابوسا يؤرق حياتهم.
وهكذا يعلمنا القرآن أنه وحتى يكون للتغيير السياسي الحاصل والذي طلبناه تأثيرا على حياتنا ومعيشتنا, لا بد أن نحدث نحن تغييرا في أفكارنا وتصوراتنا حتى تتغير نظرتنا للحياة والأحداث وتتغير سلوكياتنا وتصرفاتنا اليومية, فمن لا يزال يقذف بالمخلفات من نافذة سيارته وهو يمشي في الشارع لم يتغير, ومن لا زال يمارس الرشوة في المؤسسات الحكومية أخذا وعطاء لم يتغير, ومن لا يزال يتغيب عن دوام وظيفته ويعرقل مصالح المواطنين لم يتغير.