الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٨:٣١ صباحاً

نحن وكذبة الابن الذي انهار حلمه في أن يكون شيخا

محمد عثمان المخلافي
الخميس ، ٠١ نوفمبر ٢٠١٢ الساعة ١٢:٤٠ مساءً
ربما يعرف معظمنا حجم انتشار الخبر الذي اوردته صحيفة الرأي الكويتية نقلا عن مراسلها في اليمن اولا ثم بث الخبر عبر قناة العربية الفضائية ثانيا ثم تداوله في معظم المواقع الاخبارية الالكترونية اليمنية وباللون الاحمر الذي يشير الى الاخبار الاكثر قراءة, و في صفحات التواصل الاجتماعي الفيسبوك , الأمر الذي يثير عجب قاريء الخبر ودهشته حين يقلب صفحات الانترنت , وملخص الخبر( لمن لم يسمع به)أن شابا يمنيا من غرب الحديدة يعمل في السعودية منذ عشر سنوات كان يدعي انه يعمل مديرا لشركة في السعودية وكان حين يعود لزيارة اهله يأتي في سيارة فاخرة وبدأ بجمع توقيعات ابناء القرية ليكون شيخا لهم ,
وان اباه ذهب للحج هذا العام وهناك في الحرم في مكة قابله احد ابناء قريته و طلب منه ان يصعد معه الى الطابق الثاني من الحرم ليعرف العمل الحقيقي لابنه, وهناك شاهد الاب ابنه يدفع عربة يجلس عليها حاج طاعن في السن يطوفه ,وتفاجأ الابن واحمر وجهه خجلا وهجم على ذلك الشاب الذي قاد اباه اليه فما كان من الاب الا ان قال له ان العمل ليس عيبا وهو شرف طالما هو حلال . هذا هو فحوى الخبر الذي شغل الناس , واذا اراد القاريء الكريم ان يتأكد من حجم الاهتمام به فما عليه سوى كتابة جملة (حاج يمني يكتشف كذبة ابنه ) ويبحث عنها في جوجل.

والسؤال الذي يطرح نفسه كما يقال هو:
هل اكتشف اليمنيون فجأة أن يمنيا قد كذب وهم لا يتوقعون ذلك ؟ وهل كانت تلك اول كذبة سمعوا بها ؟ام أن تلك كانت اكبر او اخطر كذبة سمعوا بها ؟ و ما سر هذا الاهتمام غير العادي بالخبر لاسيما في ظروف غير عادية تمر بها اليمن والمنطقة تجعل الاخبار المتتالية عن احداثها مثل ذلك الخبر يبدو تافها ؟ قد يرى بعضكم ان القاريء يجد في مثل هذه الاخبار ما يسليه وسط هذا السيل العارم من الاخبار المؤلمة,لكن هذا قد وصل الى حد الاساءة الى ذلك الشاب والتشهير به ,وأعتقد جازما أن ذلك سيؤلمه كثيرا لو أنه من متصفحي الانترنت او نقل اليه احد خبرا عنه.

أعرف أن ما سأقوله لكم سيفاجئكم وسيغضبكم وستشعرون بمرارة في الحلوق ,لأن الحقيقة مرة - كما يقال .

هل تسمحون لي أن أطلب من كل شخص (اذا أردنا أن نكتشف حجم مساحة الكذب في حياتنا ) أن يتذكر المواقف التي كان فيها صادقا , واعني بالصدق التطابق بين الشعور والقول والفعل بحيث يكون قوله مطابقا لشعوره وفعله مطابقا لقوله وشعوره .

ليس الصدق هو ما أجيب به عن سؤال شخص اين انت ذاهب فأقول الى السوق أو ما اخبر به شخصا من أخبار روتينية لا يأبه لسماعها ولا يعنيه صدقي او كذبي في ما اتحدث به ,والأمر سيان إن تحدثت بها أو سكت عنهالأن واقع الحال سيبقى على ما هو في الحالين (رغم اننا نجد اشخاصا يكذبون حتى في هذه الحالات).

أصدقائي القراء الكرام : نحن لسنا نحن ,فلا نقول بما نشعر الا قلة افترض وجودها و لم اقابلها بعد .فإذا حانت لحظات نقول فيها ما يدور في داخلنا ( من مشاعر حقيقية وليس ما يدور في الذهن باعتباره الامثل)فإن أفعالنا تأتي مخالفة لأقوالنا ومشاعرنا ,نحن نخشى أن نغضب الآخرين فنقول ونفعل ما يرضى عنه الناس او ما يمثل السلوك المتفق عليه جمعيا باعتباره المتعارف عليه , لذلك ينخرط الفرد في حروب القبيلة وهو لها كاره ,
وتحب المرأة زوجها بعد الزواج لأنه لا مفر لها من ذلك ,ونعمل في مهنة يرضاها الناس ونترك اخرى بل قد نترك من نحب لأنه ناقص .

كم اضحك في داخلي حين اسمع شخصا يقول : لا احد يكذب على نفسه,(وكثيرا ما اسمع هذا) فهذه من الكذبات الكبار , لأن جميعنا يعلم (وكل واحد اخبر بنفسه) ان اكثر من نكذب عليه ونخدعه في حياتنا هو انفسنا .ولذلك نلجأ لاستجلاب التصالح مع الذات بما يسميه علماء النفس حيل الدفاع اللاشعوريه عن الذات ,فنقنع انفسنا بأن ما فعلناه كان صوابا او ضروريا او اضطرارا او لا مفر منه او مبررا او او او الخ.
ملخص القول (في نظري وارجو أن لا يغضب القاريء كثيرا) أننا لا نكاد نصدق الا حين يغلق احدنا باب الحمام على نفسه وهو مطمئن الى أنه بعيد عن العون والآذان.

وعودة الى الخبر المنشور, فمن العجيب اننا لا نغضب من الواشي الذي بذل جهدا وانفق وقتا في سبيل كشف الكذبة ومواجهة الاب بالحقيقة و لا نتساءل عن دافعه او مصلحته في ذلك , ورغم أن الحقيقة التي عرفها الأب لم تجعله يسقط مغشيا عليه أو يبصق قرفا او يتأوه ألما وانما لم تمثل له فرقا في صورة ابنه لديه فالعمل شرف طالما هو حلال وله مردود كما قال بحسب الرواية , مع ذلك كان الاهتمام بالخبر واسعا فما الذي يعبر عنه ذلك؟
هنا مربط الفرس كما يقال , وهو انهيار مسعى الابن في الحصول على المكانة الاجتماعية التي يسعى اليها وهي المشيخ ( فهو في زياراته السابقة لقريته كان يجمع توقيعات المواطنين ليكون شيخا لهم مستندا الى مكانته المهنية العالية التي ادعاها وما لديه من ثروة والمظاهر الفخمة التي كان يحيط نفسه بها كلما زار القرية) ,ورغم اني اعرف والقراء كذلك ان المشيخ يكاد يكون موقعا اجتماعيا متوارثا في اليمن فهو محصور في اسر بعينها فإن الحديدة والمناطق الغربية منها تحديدا لا تزال متمسكة بالادوار الاجتماعية التقليدية والتراتب الاجتماعي الموروث بدرجة لا تسمح بقبول الرواية وتصديقها , وقد تكون مجرد حيلة من مراسل صحيفة الرأي مصدر الخبر لإثارة القاريء اليمني والخليجي لأنه إن صدق ظني يعرف خصائص هذه الشخصية .

فما يثير القراء في الخبر هو الشماتة بالابن الذي كان يطمع في ان يكون شيخا, ومن يدري فربما إن صدقت رواية الخبرقد يكون وراء نشره بهذا الحيز الواسع قصد التشفي والاذلال والتاديب من الذين شعروا بخطورة هذا الاسلوب الجديد في مجرى التغير الاجتماعي وهو الوصول الى المشيخ لا بالتوارث وانما با الاختيار والمكانة المهنية ,وهو اسلوب إن نجح سيقلب الاوضاع الاجتماعية في اليمن رأسا على عقب ,(ولما تأت شروط نجاح ذلك بعد) وإن نجح في قرية سينتقل الى الاخرى .

إن من يقرأ في خصائص مجتمعات المقهورين يعرف ان الشماتة هي احد خصائص الشخصية المقهورة ( ليس الشماتة بالقاهر فقط وانما بمقهور ين ايضا ) وربما يكون تفسير ذلك هو الشعور بالارتياح بأنه (لا احد أحسن من أحد)حين تكون الشماتة بمقهور, والتشفي حين تكون الشماتة بقاهر. وربما يكون دافع ذلك الواشي ليس لأنه من اسرة مشيخ يخشى اسلوب المزاحمة الجديد وانما هو ( رعوي ) لا يريد أن برى (رعويا) شيخا حتى لا يكون احد احسن من احد.