الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٧:٠٠ صباحاً

التحدي الذي يواجه الشعوب اليوم هوالانتداب الديمقراطي!!

جمال عبد الناصر الحكيمي
الثلاثاء ، ٢٧ نوفمبر ٢٠١٢ الساعة ٠٩:٤٠ صباحاً
لماذا تحولت الديمقراطية في البلاد العربية – وخاصة اليمن- إلى أمر محتوم على الشعب؟
للإجابة على ذلك، من المفيد أن ننظر إلى العهد السابق لمعرفة أن صمت الشعب لعقود تجاه فوضى السياسيين حال دون تغيير وبناء أنظمة وأسس وقواعد جديدة، في مرحلة كانت تعبر فيها الديمقراطية عن ضياع ثروات الشعب من أجل جماعات سياسية وتحالفات لتحكم جماعات فقيرة وتحتوي غضبها.. ومع كل الصفات السلبية لها تأقلم معها الشعب كعنصر أجنبي، كرسته النخب كمبدأ ينظر إلى عقولنا أنها ليست ذات شأن يمكنها من اختراع أي شيء جديد!
وضلينا نتبع ظلام وزيف أن التغيير يكمن في العناصر المستوردة للهروب من أمر واحد (الاعتماد على إرادتنا لحراثة أرضنا) ما أعمانا عن العمل كي نتوجه للتفكير ما يكفي لإنارة فكرة تبني نظام خاص بنا.

ندرك أن النظام الديمقراطي حقق نجاحاً في بلدان حققت شعوبها الخلاص من كل أشكال الاستغلال بما تحقق لها من الوعي الثقافي والسياسي أسوة بالنخب التي اتصلت بواقعها حيث تتقدم بقليل من الفساد وكثير من التركيز على العلم، الدين، والعمل، كما تحققت أنماط حياة مختلفة أفضت تدريجياً إلى مرحلة نزوع لترقية حالات الأفراد في اكتساب المعرفة وتوظيفها، سواء أكان ذلك في العمل على تحقيق فرص متساوية أمامهم لتحديد أسس الحكم ونظم الاختيار ومواصفات الحاكم وكذلك القدرة على مراقبته ومحاسبته.. أم التمتع بحرية التعبير والإعلام.. وضمان تغذية صحية...
ولكن ثمة أفكار لمتخصصين منذ سنوات تتحدث عن سقوط لهذا النظام بشكل تدريجي مع تردي في تجارب ديمقراطيات ظلت مرتبطة صعوداً وهبوطاً بقوة الاقتصاد والقدرات العسكرية.. وقد لخصت كتابات أجنبية كثيرة واقع الديمقراطيات في كثير من البلدان وفق مؤشرات، تدل على انحطاط في النظام الديمقراطي يجر معه انحطاط اجتماعي وأخلاقي كمثال في أميركا.

وهذا يعني أن بقاء تداول فكرة الديمقراطية بالترويج لها كمنقذ للشعب الباحث عن الحرية.. تدل على أننا نسير على هدى أفكار مصيرها الفشل والاندثار. ويصبح مبرر وجودها انحطاط يؤجل عملية التفكير بالبديل، والتي تقود إلى تدنيس "المقدس الديمقراطي" لدى النخب والأحزاب، وتلغي تأجير مستقبل البلاد و الشعب على قوى تتغلغل في ثقافتنا لتطويق أي محاولات للخروج عن التبعية.. وإلا ما هي الأفكار التي قدمتها الأحزاب والنخب؟!
بعد أن ظلت الديمقراطية بتوصيفاتها الإيجابية والسلبية سبباً لتتويج رئيس وحيد للبلاد بصلاحيات لا تعد ولا تحصى، وإنتاج مجالس نيابية وحكومات هزلية وراثية لعقود بلغت فيها الشعارات الديمقراطية أوج ازدهارها بين طبقة السياسيين، وأدنى درجات ازدراءها لفئات كثيرة من الشعب.. كما خضعت لاختبار المعارضة لفترة طويلة شربت من كأسها لمرات.. وكانت الملكية المشتركة للسياسيين التي تحمل علامة تجارية دولية خاصة باحتكار الأغلبية الشعبية بوسائل التضليل والتشويش.. واستغلال تنامي ثقافة (النقيض)، لإدارة الصراع وتجاوز الأزمات.. وأسوأ من ذلك أنها حوّلت مسألة السيادة عملياً لأصحاب الثروة والنفوذ، وقدمت الأحزاب كقوى مدنية بلباس نقيض لما تدعوا إليه بعدم ممارستها في الواقع الحزبي، وإن كانت تؤمن على قاعدة حكم (الأغلبية، والتوافق، والتقاسم) في الحياة العامة، فهي تكرس شرعية السيادة بالتغلب على الأقلية من المستضعفين والفقراء ( الطبقة الأسفل).

ومرة أخرى، بعد زمن (الربيع العربي)، نعود إلى تكرار تجربة الديمقراطية المثقلة بأحمال تركة كبيرة من الفساد والاستبداد والقمع والظلم والتخلف. ولكنها مازالت تستحوذ على النخب السياسية والمثقفة والأكاديمية والشبابية الثائرة، كإرث وطني راسخ.. لا يمكن تغييره، ومن وجهة نظري، يتجلى مدى تأثير النظام العالمي في تكريس مفاهيم(الهيمنة) كأسطورة خارقة للعادة بالنسبة للباحثين عن الحرية"تضرب بنا أشتاتاً في تيه مقفر لا ينتهي".. ورغم أن خطر هذه الأسطورة أصبح مكشوفاً لدى الناس الذين يعارضونها، ليس بسبب التعثر في تطبيقها شكلاً، بل ومضموناً بأنها أصبحت أكثر أهمية من هوية المواطن بصورة تفرض (انتداب عملي) على نمط حياته.. ومن ثم، لا يمكن أن نتجاهل حقيقة سيطرتها على " الإرادة الجماعية" بداية كقوة رئيسية توزع السلطات والحقوق عن طريق صعق التفكير بتطوير المجتمع وإخضاعه للتفكير في مسائل سياسية وطائفية تهدد وحدته وتسير به نحو الإخفاقات والاضطرابات السياسية وتصادم الأفكار والآراء، وتغذية روح التعصب دينياً، وقبلياً، وإقليمياً، بدليل أن أحاديثنا دوماً في تصاعد بوتيرة إعلامية متعصبة بدافع الاختلاف في السياسة، لترويج أفكار سياسية أو إيديولوجية معينة سواءً أكان هذا بتفضيل طرف سياسي على آخر أم حول التبعية السياسية أو الميول الطائفية أم حول سلوك الأحزاب أم حول الحقوق والمبادرات والحوارات ... فإن أحداً لا يهتم اليوم إلى أنها غدت أسطورة تشظي – أي الديمقراطية- نركبها جميعاً رجما بالتطور! مع اعتبارها ملازماً حتمياً للتنظيم السياسي والاجتماعي.. وهي فكرة المفروض أنها انقرضت في أول تجربة عربية فاشلة، ولكنها تبدو رباً يُعبَد بلا كتاب ولا حكم ولا نبوة.. بإرادة وإدارة المصالح الكبرى للدول ضد هويتنا العربية الإسلامية.

إن النظر إلى الحالة الديمقراطية في العهد السابق وفحص ما كان يعتبره الناس ديمقراطية حين وضع الأصوات في الصندوق ثم العودة إلى الانتظار أمام عداد الزمن.. يشكل أمراً غير مقبول بالنسبة للثائر اليوم. وعندما كانت تستحضر شعارات الديمقراطية خلال الانتفاضة الشعبية للمطالبة بـ"إسقاط النظام"، كان ذلك يجسد مفارقة تتصل بتأثر الأذهان نتيجة السيطرة القوية للتفكير في السياسة.
وأن أحدى المفارقات التي يشهدها (الربيع العربي) اليوم تتمثل في الرفض غير المقنع للمشاريع العربية البديلة كالنظرية الثالثة التي أنتجها المغدور به معمر القذافي المحسوب على عهد الديكتاتوريات العربية، وبغض النظر عن موقفنا نحوه- فهو صاحب أول فكرة نظرية سياسية عربية لحكم الشعب (المؤتمرات الشعبية).. تلك إن بحثناها بجدية ستكون أول خطوة تعترف بالأساس العلمي للسياسة كمقدمة لعصر ذهبي. ويمكننا الآن الحكم على تجربة مصر الجديدة (ديمقراطية الربيع) والتي كررت النمط القديم في كيفية اختيار حاكمها وإن كانت عملية الاختيار أكثر نزاهة وفق مؤشرات إلا أنها لم تخفي اليوم النتائج السلبية عن قرارات رئيس بأغلبية ديمقراطية وليس بأغلبية شعبية (من الأصوات) أثار بقراراته فئات معارضة تفوق عدداً ما حصل عليه من الأصوات.. فبينما يقف الشعب أمام تمثيل "إرادته المشتركة" في كتابة الدستور الجديد، يضيف الرئيس صلاحيات لنفسه ويصادر حق مشاركة كل الفئات في تأسيس مصر الجديدة! ويميل إلى أسلوب ديكتاتورية لطالما عارضها وثار الشعب ضدها.. استناداً على أفكار كانت تمثل في نظر المعارضين للعهد القديم استبداداً وقمعاً وتزوير إرادة!

لقد أنزلنا هنا منزلة نذير الشر باسم الحرية والكرامة ، الذي يعيدنا إلى نفس الوضع المريض السابق على نهج الديكتاتورية من خلال استغلال الشعارات..
ولا يمكن إقناعنا بأن الانتفاضة الشعبية ستنصف الطبقات المستضعفة والفقيرة. فحالة الديمقراطية مازالت تَشغف السياسيين بالصندوق! ليأتي من يحوّلها إلى ملك خاص لإرث عائلي أوحزبي...
ولكن لابد من الإشارة إلى أنه لو فكرنا بتغيير النظام الديمقراطي بأسسه ومبادئه وآلياته وضوابطه .. لنجينا بديننا ووطننا ومستقبلنا. وذلك لن يحدث إلا إذا آمنت القوى السياسية قبل غيرها بأن "إسقاط النظام" يعني الدفع نحو إسقاط النظام التداولي.. وإعادة بناء النظام الديمقراطي على أساس (السيادة للشعب) وليس للممثلين وبمشاركة"الإرادة الشعبية". وبناء ً على ذلك تزداد الحاجة إلى بلورة مجموعة أفكار للانتقال إلى العمل بمنظومة جديدة في التفكير والتربية والتعليم والسلوك والشعارات والمصطلحات تمحو ما وصلتنا من ثقافة ديمقراطية ليبرالية ظاهرها التوازن في إدارة المصالح، وباطنها الاستغلال والقهر وتقاسم الثروات!!.