الاربعاء ، ٢٤ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠١:٠٧ مساءً

وزارة الخارجية ... مليحة عاشقاها الإهمال والفساد (1)

سامي الباشا
السبت ، ٢٢ ديسمبر ٢٠١٢ الساعة ٠٤:٤٠ مساءً
عندما يدور الحديث عن وزارة الخارجية وخصوصا في اليمن يكون الانطباع الأول لدى الغالبية بأنها تلك الوزارة التي تستهلك وتستنفذ الجزء الأكبر من موازنة الدولة، باعتبار أن الصورة النمطية للموظفين الدبلوماسيين هي تلك الصورة التي تجسدهم باعتبارهم "أثرياء الحكومة" إن صح التعبير، فهم يرتدون ملابس باهظة الثمن ويتنقلون بسيارات فاخرة في أجواء عمل لا تتطلب منهم سواء إجراءات بروتوكولية تتنوع بين حفلات ومقابلات ومراسم مختلفة في حياة تملؤها الدعة والراحة.
ولكن المثل الشهير (الصيت ولا الغنى ) يكاد يكون لسان حال موظفي وزارة الخارجية اليمنية على وجه الخصوص، ومهما حاولت أن توضح حال الموظفين أو الوزارة التي أصبح أعداؤها يرثون لها قبل أصدقاؤها، فأنك ستجد صعوبة في تصديق الواقع الحقيقي الذي أصاب هذه الوزارة والذي ما أن فكرت أن اكتب عنه حتى تبادرت إلى ذهني الأبيات الشهيرة للشاعر الخالد البردوني وهو يصف صنعاء قائلاً : ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي ؟ مليحة عاشقاها السل والجرب. وحال وزارة الخارجية لا يبدو بعيداً عن هذا الحال الذي وصف فيه البردوني حال صنعاء ولربما كان حالها أكثر بؤساً من ذلك.
لن نتطرق في هذا المقال إلى طبيعة العمل الدبلوماسي المعاصر الذي ينشده موظفو وزارة الخارجية والبعيد كل البعد عن الصورة النمطية المعتادة للدبلوماسي ، ولا إلى الوضع الحالي للعمل الدبلوماسي اليمني الذي واجه كثير من المعوقات التي حالت دون تحقيق أهدافه المأمولة. ولكن ولكي يحصل القارئ والمهتم على صورة حقيقية تمكنه من فهم طبيعة العثرات التي تواجه أي جهاز حكومي عليه أن يعرف تماما ما هي إمكانيات هذا الجهاز وما هي الموارد المتوفرة لديه وهل هي حقاً بحجم الأعباء الملقاة على عاتقه ؟
بلغة الأرقام ووفقا للبيانات المالية للحكومة اليمنية للأعوام ( 2009 - 2012 ) ومن مقارنة ميزانية وزارة الخارجية خلال هذه الفترة بميزانية بعض الوزارات الأخرى وفقا للجدول أدناه نجد أن ما يتم اعتماده لوزارة الخارجية هو الأقل بين كل من وزارة التخطيط والإعلام والإدارة المحلية والتعليم العالي كما يوضح الجدول. وفي الوقت الذي تزيد أو تتضاعف فيه ميزانية الوزارات الأخرى يستمر التقليص والتخفيض في موازنة وزارة الخارجية !! ومن المفارقات العجيبة أن الإعلام الذي يمثل أداة من أدوات الدبلوماسية – كما يرى البعض- يحصل في موازنته على ما يزيد عن موازنة وزارة الخارجية نفسها. وحتى بالمقارنة مع وزارة التخطيط والتعاون الدولي – التي يمثل نشاطها جزء من النشاط الأوسع الذي تقوم به الخارجية- نجد أن موازنة الوزارة تزيد عن موازنة وزارة الخارجية التي تقل بدورها من عام لآخر علماً أن موازنة وزارة الخارجية تشمل ديوان عام الوزارة وكافة البعثات الدبلوماسية اليمنية في الخارج – ستة وخمسون بعثة - وبما في ذلك رسوم الاشتراكات في المنظمات الدولية والإقليمية !!
جدول يوضح ميزانيات بعض الوزارات مقارنة بالخارجية (2009-2012)*
االسنة الخارجية التخطيط والتعاون الدولي الإعلام الإدارة المحلية التعليم العالي والبحث العلمي
2009 12,274,671 15,962,722 12,778,269 8,275,802 11,896,831
2010 11,370,366 18,962,201 12,277,847 12,971,321 12,207,884
2011 11,031,436 13,889,177 12,799,467 11,686,155 12,870,303
( تقديرية )2012 10,635,036 11,771,103 15,537,631 21,071,467 12,696,535

إن النظر لموازنة وزارة الخارجية كجزء من موازنة الحكومة اليمنية يظهر الصورة بشكل أكثر وضوحا، حيث إذا أخذنا ميزانية العام 2011م على سبيل المثال وهي مبلغ إحدى عشر مليار تقريبا، ومع الأخذ بعين الاعتبار أن التقديرات الخاصة بالموازنة العامة للدولة للعام 2011 بلغت تريليون و519 مليار ريال (التريليون=ألف مليار) فإن موازنة وزارة الخارجية لعام 2011م تمثل نسبة (0.72%) أي أقل من واحد بالمائة من موازنة الدولة وهو مبلغ ضئيل إذا ما أؤخذ بعين الاعتبار أن وزارة الخارجية تعد وزارة سيادية وكذلك وزارة إيرادية.

وبالرغم مما سبق ما يزال لسان حال الكثيرين حالما يتم ذكر التقشف أن وزارة الخارجية هي من تستنفذ موازنة الدولة ويجب بدء التقشف بها مع انه وكما لاحظنا بالأرقام فحتى لو تم التقشف عن طريق إلغاء وزارة الخارجية بشكل كامل فلن يتم توفير سوى (0.72%) من موازنة الدولة مع العلم أن وزارة الخارجية عن طريق بعثاتها الدبلوماسية تضمن لليمن معونات ومنح تفوق بأضعاف الميزانية التي تصرف على الوزارة نفسها.

إذن ونحن أمام هذه الحقائق والأرقام نتساءل ونستغرب لماذا الهجوم المحموم دائما على وزارة الخارجية وموظفيها عند الحديث عن تقاعس الجهاز الحكومي للدولة أو الرغبة في خفض النفقات؟ وهل حقا في ظل هذه الإمكانيات المتواضعة إن صح التعبير من الممكن أن نطالب وزارة الخارجية بدور أكبر من الدور الذي تلعبه الآن وفي نفس الوقت هل أن هذا الاعتماد المتواضع للوزارة يبرر تعثر وإخفاق العمل الدبلوماسي اليمني خلال السنوات الماضية ؟ ثم لماذا فعلا ما زال الانطباع السائد لدى الغالبية أن موظفي وزارة الخارجية هم دون غيرهم من موظفي الدولة من يمتلكون وضع وامتيازات أفضل علماً أن موازنة الخارجية أقل أساسا من موازنات كثير من الوزارات اليمنية الأخرى؟
كثير من هذه الأسئلة ستكون محور مقالاتنا القادمة ، ولكني أحببت فقط أن أجعل من هذه الأرقام البداية لكي يعلم القارئ والمهتم الحدود الممكنة والموارد الحقيقية المتوفرة أمام وزارة الخارجية وضآلة هذه الموارد أمام الدور المطلوب القيام به من قبل هذه المؤسسة، وكيف أنه حتى مع هذه الموارد الشحيحة لا تقوم الإدارة المؤسساتية في هذه الحال بتعويض شحة الإمكانات المادية بالتركيز على إشاعة مناخ وبيئة وظيفية تتسم بالعدالة وتطبيق القانون بشكل متساوي على الجميع، بل على العكس من ذلك يتم التمييز بين الموظفين وتضييع حقوق البعض وإعطاء البعض الآخر امتيازات واستثناءات لا يستحقها لتساهم بذلك في قتل طموح ورغبات الموظف في خدمة مؤسسته التي يعمل فيها أو خدمة المواطن.
ثم تأتي بعد ذلك ثالثة الأثافي "الفساد" – كما سنرى لاحقا- ليشوه الصورة الحقيقية لحال موظفي وزارة الخارجية ويلحق بهم الصورة النمطية من البذخ والثراء الذي يكتسبه البعض بطرق غير مشروعة ولكنها تعمم على الجميع من باب أن الحسنة تخص والسيئة تعم فيعتقد البعض أنها الحقيقة المؤكدة ولكن – وكما رأينا – فإن لغة الأرقام وحدها فقط تظل دائما الحقيقة المطلقة.


* الأرقام والبيانات المالية مصدرها مشروع تحديث المالية ويمكن الحصول عليها من الموقع الإلكتروني لوزارة المالية اليمنية.