الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ١١:٣٣ صباحاً

السعودية .. الهوية الضائعة

إيمان ناعس
السبت ، ١٩ يناير ٢٠١٣ الساعة ٠٨:٤٠ مساءً
يذكر أحدهم أنه حين استضاف أحد السائحين الأجانب للقطيف وولاه ناحية بيوتات القلعة الأثرية (المركز الرئيسي لسكان المدينة قبل أحداث 1979م) ورأى ما رأى من استهداف وتدمير لذلك التراث الزاخر بالتاريخ تحسر قائلاً :إن من يستهدف تدمير هذه المنازل يرتكب جريمة في حق التاريخ. رد عليه مضيفه القطيفي قائلاً: ونحن هم الضحية.

كان ذلك قبل أكثر من ربع قرن من الزمان،وكان ذلك الزائر الأجنبي مشفقاً على ذلك التراث الذي يدمر بوضح النهار دون أن يقف في وجهه أحد، ولكن كل الذين نالتهم الحسرة لم تكن أيديهم هي التي قصرت عن رد ذلك العدوان بل وحتى ألسنتهم لم تكن تجرؤ أن تنبس ببنت شفة وإلا قطعتها شفرة السيف الأملح.

ليست كل الأثريات عرضة للتهلكة، فقط ما يمتُ للأسرة المالكة هو ما يجب أن يحفظ و يصان ، فالتاريخ في شبه جزيرة العرب يجب أن يبدأ من اللحظة التي برق فيها سيف الأسرة التي ملكت الجميع ،وأما ما قبله فيجب أن يذوب في محرقة النسيان.وفي الوقت الذي تحتفظ فيه الأسرة المالكة بكل ما يمت لها، تتهاوى بقايا آثار المناطق الأخرى.

حين بدأت الأحوال المدنية في السعودية في استصدار بطاقة الهوية الشخصية للمواطنين كانت تسمي تلك البطاقة بـ "التابعية" والتي تعني أن حامل هذه الوثيقة تابع للأسرة المالكة. بهذا الإيجاز يمكن لأي باحث أن يعبر إلى حكاية الهوية المفقودة في السعودية.فهذه التبعية هي التي تكسب المواطن صفة الصلاح بشكل واضح ومباشر ،وهي ذاتها التي تسلبه حقه في الانتماء إلى الأرض والجغرافيا التي ينتمي إليها بصورة غير مباشرة،فليس لأحد أن يعبّر عن آلام منطقته وآمالها ،وإنما عليه فقط أن يؤكد قوة تلك "التبعية" التي وهبته أياها الأسرة المالكة.ونتيجة لذلك توارت الهوية الحقيقية النابعة من الجغرافيا والحضارة والتاريخ،وأضحى انسان شبه الجزيرة باحثاً عن هويته المفقودة.

في ظل ثقافة "التبعية" ،على المواطن أن يعلن عن تبعيته تلك في كل مناسبة، حتى بات الإعلان عن الولاء تسبيحة المواطنة وديباجة تتصدر كل الفعاليات،يحفظها المواطن الصالح يتلقنها جيداً حتى إذا ما أدارت كاميرا الإعلام وجهتها ناحيته ردد كلمات حسن المواطنة بتلك الديباجة وذلك التسبيح،وبدلاً من أن يقسم الحاكم بولاءه لمصلحة الشعب بداية حكمه، فإن على الشعب أن يعلن ولاءه المطلق للحاكم في كل يوم وفي كل مناسبة!!

اليوم تشهد السعودية مرحلة "انفجار الهويات" وهي مرحلة العودة القوية للأصالة واستبدال عن ذلك التيه بالهوية النابعة من أصالة الانتماء لثقافة المنطقة بحدودها الجغرافية وتاريخها الحقيقي .و ظهر جيل جديد-قديم يطالب بالعودة الحقيقية لتلك الهوية التي غطاها الاستبداد،والذي اجتهد السيف والمال في إذابتها في بوتقة "التبعية" المفرطة باسم الدين والوطن.

فاليوم مثلاً يبكي القطيفيون أرضهم ويبكون ملامحها التي غابت خلف ركام الرمال الطامعة الزاحفة لالتهام كل شيء باسم المصلحة العامة،ففي حين تسير الجرافات ليل نهار تسابق الزمن لردم ما يمكن أن يتحول إلى دراهم معدودة من البر والبحر،ترتفع الأصوات باحثة عن سبيل لإيقاف تلك الجرائم المتواصلة.لقد خرج من صميم اليأس جيل يستعيد هويته من ذاكرة هذا الجسد الممتد على شاطئ الخليج،يبحث في رائحة ترابه ووراء كل حجر وفي كل زاوية من زوايا أرضه عما يعبر عن هويتها وعن أصالتها ليعيد لها الحياة من جديد.

بدأت المقاومة فعلاً من أجل بقاء الهوية الحقة،ومن أجل أن لا يضيع هذا الإرث التاريخي الذي سجله الأجنبي في أرشيفاته قبل العربي، ومن أجل الحفاظ على ما تبقى من ثروة طبيعية هي الذخر الحقيقي للأجيال القادمة.وبات التحدي بأبعاده المعنوية والمادية في أن تبقى القطيف في ذاكرة أبنائها وللجيل القادم وفي أن تحتفظ بهويتها وحدودها وملامحها.وإن تحقق ذلك،في حينها لن نعلن عن انهيار مبدأ "التبعية" المطلقة،فيكفي لانهزام الباطل أن يقوم الحق من جديد.