الاربعاء ، ٢٤ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٢:٥١ مساءً

اطلبوا العلم والإسلام في إيران!

جمال عبد الناصر الحكيمي
الاربعاء ، ٢٠ مارس ٢٠١٣ الساعة ٠٦:١٣ صباحاً


"إيران أخطر من إسرائيل"، بيد أن الحديث عن خطر برنامجها النووي طغى على حديث كان ولابد أن نعرفه عن إيران هو أنها تمثل خط الدفاع الأول عن مشروع التقدم العلمي الإسلامي اعتماداً على الإمكانات الذاتية كما سوريا خط الدفاع العربي، ويا ليت المتابعون للإعلام الموّجه بأجندة الخداع السياسي يدركون أن الصورة المرسومة عن إيران مشحونة بالعداء والتحريض للفتنة بين المسلمين وأن الحكومات العربية اكتفت باعتمادها كمعلب استهلاكي بعد استكانتها لطمس الهوية بل وتحول بعضها إلى أدوات للمواجهة الطائفية والنزاعات السياسية تحت رحمة ثقافة الهيمنة، تجنباً لأن يشغل العرب عقولهم لاكتشاف المجهول واستنباط الحقائق إتباعا لما أوحاه الله تعالى للمرسل رحمةً للعالمين "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ".. فيدركون أن عدوهم ليس إيران ومذهبها الشيعي كما يفهمون اليوم خلافاً للنص القرآني وإنما تفريق دينهم وإتباع الموروث المشوّه وأهواء "الذين هادوا" واتخاذ قيادات السياسات الاستعمارية أولياءً "من دون المؤمنين".
في الشهر الفائت كنّا في زيارة ضمن وفد إعلامي عربي إلى إيران ولبنان بدعوة كريمة من مؤسسات ثقافية كمؤشر واضح إلى شعورها بالحاجة إلى إجراء تغييرات بقدر إزالة الالتباس الحاصل في الذهنية العربية التي انسحقت رسمياً تحت وطأة التبعية لثقافة العولمة المسنودة بوسائل "ماردوخ" والمتضخمة بأموال الخليج.
وفي تجربة كهذه يظل حس الاكتشاف مهماً، لمعرفة إيران على الواقع، بعد أن كنا نعرف عنها من خلال الإعلام والمنابر المسخّرة للأيدلوجيات والأحزاب، وعندما ذهبنا إليها وجدنا أن الحرب القائمة عليها ليست حرب النووي ولا الدفاع عن الصحابة وإنما حرب الثقافات وصراع الهويات وتسابق الأدمغة. ويعني ذلك أن هناك من يحاول جعل الفضاء مغلقاً أمام البحث لاكتشافها، في حين تنطلق بأقمارها إلى الفضاء كإنجاز معرفي على قاعدة الملاءمة بين تراثها والأخذ بأسباب التقدم لتظهر من قوة هويتها أمام تأثير الخطر الخارجي.
وبالرغم من تضييق الحصار، فإن إيران كانت فضاءً غير سياسي بالنسبة لإعلاميين من مختلف الاتجاهات، وبما يشبع بعض الفضول عن المكان الذي شبّ عن الطوق.. وفي ظل الوقت المسموح به للتواصل العام في مدينتي طهران وأصفهان رأينا أن التنظيم الإسلامي الدقيق هو السائد بالمعنى التقليدي والمعاصر للكلمة. وشاهدنا من عناصر الحضارة الفارسية هناك الزمن والتاريخ والتفكير والبشر بتوثيق متقن. وثمة اعتزاز وتفاؤل بالمستقبل لاحظناه مرتسماً بعفوية على وجوه الشباب حين مشاركتنا في الاحتفال بذكرى انتصار الثورة، كدلالة تخبرنا بأن هناك قواعد وأسس كانت الثورة قد حددتها لنفسها برغبة صادقة. وترى حضور جيل الشباب طاغي على مجالات مختلفة كظاهرة تعبّر عن فتوة المجتمع الإيراني وتفسر عملية البناء.
وشهدنا من التجارب الفريدة تناغم السنّة والشيعة أثناء الصلاة في مساجد طهران على موجة واحدة هي القبلة، ما لم يثر فضول الأخوة من الشيعة كما يبدو بوجه عام على أنه تسامح وقبول بالآخر بالرغم من ظهور مشاعر عدائية ضد دول وكيانات كأميركا وإسرائيل وزعامات كصدام حسين، خلال نقاشات عامة إلّا أنها لم تظهر أي ميل للكراهية ضد الطائفة أو الحزب أو الهوية. ولكن الأهم من كل ذلك أن ما أضافته المساجد من روحانية أعمق أحسسنا بها عند سماع الأصوات الفاتنة حين إقامة الآذان وتلاوة القرءان. وقد يكون هذا تعليل لاستثارة الألفة لمناداة أنفسنا بطلب الإسلام في إيران.
كما منحتنا إيران دهشةً لم تنقطع ابتداءً بصعودنا الطائرة الإيرانية حتى انطلاقنا في اكتشاف طهران التي تكشف نفسها كمركز فسيح للعمل والعلم والثقافة، إذ تغري العين بألوان الحياة المختلطة مع الطبيعة بأجمل صورة لمزيج من روح الأصالة والمعاصرة، وتزامن بديع بين الوقت والمكان وبين الجمال والخضرة والماء، بحيث تشعر أثناء تجولك في شوارعها أنك أمام فيلم سينمائي عالي التقنية لتقديم عرض يرحب بمشاهديه من منطلق معرفة بأنماطهم.. فهناك تنظيم رائع للأحياء والشوارع وحتى المقابر والأشجار واللافتات يلازمه النظافة اللامعة وإيقاع حركة السير المنسابة بصمت مع خرير المياه الجارية على ضفاف الشوارع الكبيرة.. وإجمالاً تشاهد هناك أنساق التطور تشمل حركة المرور وتنظيم الأسواق وتجول النساء وقيادتهن للسيارات والدراجات النارية بلا إزعاج في ظل ظهور قليل للبوليس. وكذلك تظهر ملامح الاقتصاد برسالة مجتمعية لمشاريع نشطة في البناء كمترو الأنفاق والمنتجعات والجسور والميادين والمعالم والمتاحف تتكامل مع مشاريع كالتعليم والصحة والصناعة والفن لتعبِّر عن الصورة الواعية للهوية تدعمها صوراً جميلة للضمير والقيم والجمال.. وبالرغم من ممارسة التكنولوجيا في عملية التطور فإنك لا تشعر بالضياع، بعد أن تعلم أنها ليست ممولة بقروض البنك الدولي، فهناك وعي متزايد بأهمية بخطورة الاختراق الثقافي. ويفصح الوعي عن نفسه باستيعاب الجانب الإيراني لحساسية الثقافة الموروثة بين المذاهب ويقدم الاهتمام بفكرة الحوار للتفاهم المشترك إبعاداً للأخطار ووصولاً إلى الوحدة الإسلامية التي تتحدد شعبيتها في مجمع الصحوة، وهو استخلاص لما أتيح لنا من خلال حضور مؤتمرات مع بعض المعنيين بالشأن الإعلامي والثقافي، بينها قدر من النقاشات تطرقت إلى دعم إيران للإخوان طيلة السنوات الماضية وعبّرت عن تطلع إلى التعاون معهم وغيرهم بعد التخلص من التبعية للاستكبار.
وكل ما شاهدناه في طهران كان شكلاً يمكن اعتباره منابع لا تنفذ لإلهام النظام المدني. وفي الجوهر فإن طهران مزيج من الحضارة الفارسية والمعرفة الإسلامية وهي على دراية بمدنٍ شبعت من الرأسمالية لذلك تبدو أقرب إلى الطبقة الوسطى. وينطبق الحال كثيرا على مدينة أصفهان بحضور أقوى لتجلياتها القديمة وتناسقها بمقدار مع تجربة إيران الصناعية وصور أقل من تجربة طهران في الجمال والتنظيم. ونخلص من مشاهداتنا إلى أن ثقافة المجتمع الإيراني في حالة صعود على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية.
وفي إطار جولتنا لاستكشاف المجهول استقبلتنا بيروت في حالتها العصرية كنموذج عربي يكشف فرادة التعايش والتنوع الأوسع من الجغرافيا لكن بصورة وجدناها تثير الرغبات وتقتل الحاجات.. بينما تغطيها المقاومة بدرعها الواقي. ذلك أننا شاهدنا في الضاحية الجنوبية والجنوب اللبناني كيف توظف المقاومة إمكانياتها لإرضاء الناس في نسق إعادة الإعمار بدعم ذاتي يتسق مع التجربة الإيرانية.. كما شاهدنا قصة التحرير للمقاومة مسجلةً بعظمة الرجال الذين سطروا الانتصارات في زمن الهزائم.. وتوثيقا لمساراتها السياسية والفكرية والعسكرية والاجتماعية بإتقان يتجسد في متحف مليتا وفي مارون الرأس حيث دونت روايات تتحدث عن الانتصار. بالإضافة إلى صور حيّة صاحبتنا صورة رجل حزب الله الاستثنائي حسن نصر الله الذي خطاباته تُعرف لنا رؤية المقاومة واحترافية رجالها وثقافتهم وإدارتهم.
وفي ضوء فضاء زيارتنا يمكن القول أننا عدنا ونحن نريد لبلادنا الاستقلال لاكتشاف الآخر عبر التواصل والحوار.. وترسخ اقتناعي أن إيران ذو سياسة رصينة تؤمن بتفوق نظامها الإسلامي مقابل ضعف العرب وعليها أن تكسب اللعبة أمام قوى الاستكبار، بينما يبرر لذلك كـ"شرِ" لابد منه يقدمه الأخوة أنصار الله لإحداث توازن مع "الشر" السعودي، وحشر أعصاب اليمنيين بينهم والأخوة الإصلاحيين.. مما يعطل القدرات الوطنية الضئيلة في بناء دولة قوية لا تقل شأناً عن الدول اللاعبة.. لكن بنفس القدر من الاقتناع أرى أننا بحاجة إلى أن نبحث في مميزات النظام الإيراني ونأخذ ما يناسبنا سواءً في مجالات الفكر أو السلوك والأخلاق.. وذلك بفضاء مفتوح مع إيران مثلما هو على الأقل مع السعودية أو مصر دون التخلي عن مبدأ السيادة.
ونحن أحوج اليوم إلى الاستفادة في مجال تطوير ثقافة التسامح ومنهج البحث عن المعرفة؛ للارتقاء بالفكر.. متطلعين بصورة عامة إلى مراجعة شاملة للعلاقات التي تربط التربية بالتعصب المذهبي والحزبي على أنه دين سماوي يتقاسم تمثيله الإعلام التابع والتطرف الضال.. وذلك لن يتحقق إلا بالنظر إلى ديننا الإسلامي كرسالة للعالمين تسمو فوق الطوائف والمذاهب والأحزاب.
وإذا أردنا أن نرى المستقبل كشباب عربي إسلامي فلابد من عمل رائع وسريع للتصدي لكل مشروعات التحريض والفتنة لإبعاد الناس عن ترسيخ ثقافة الكراهية وبالتالي الاقتتال.