الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٣:٠٢ مساءً

ثمن الحرية الحمراء

عائض القرني
السبت ، ١٧ سبتمبر ٢٠١١ الساعة ١٠:١٠ صباحاً
نزل صك الحرية من السماء أتى به جبريل من عند الله، عز وجل، ونصه «إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِين أَنفُسَهم وَأَمْوَالَهم بِأَنَّ لَهم الجَنَّةَ يُقَاتِلُون فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُون وَيُقْتَلُون وَعْدا عَلَيه حَقّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجيل وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»، فجرى العقد في بيعة الرضوان، والمشتري هو الله، والبائع المؤمنون، والسلعة الجنة، والثمن أرواح المؤمنين، والشاهد الرسول، صلى الله عليه وسلم، وحامل العقد جبريل، عليه السلام، فبايع المؤمنون وقاموا من مجلس العقد. وفي الحديث: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإذا تفرقا وجب البيع»، ولم تحصل الحرية من عبادة الطاغوت بالمفاوضات فحسب، بل لما عاند أعداء الله كان بحسم من السيف.

يقول صديقنا أبو الطيب: من اقتضى بسوى الهندي حاجته أجاب كل سؤال عن هل بلم وكل الثورات التحررية في العالم والفتوحات والحركات النضالية لا تحصل إلا بأرواح تزهق، ودماء تسفك، وهل قامت الدول إلا بأثمان باهظة من الدماء والأشلاء والجماجم؟ والذي وقع في بدر وأحد والقادسية واليرموك وحطين كله من أجل الحرية الحمراء. يقول شوقي:

وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق وفي التاريخ المعاصر هل وحدت الولايات المتحدة على يد جورج واشنطن بالمفاوضات الدبلوماسية والاجتماعات الودية أم بالحديد والنار والتضحيات الباهظة؟ وهذا ما حصل، هل حررت الجزائر أرضها أو شعبها من الاحتلال الفرنسي بالترجي والتمني وطلب العفو أم بكتائب جرارة ونار موقدة وقذائف حامية ورؤوس عافت أبدانها في سبيل الحرية؟ وهذا الذي جرى، هل أخرج الاستعمار الفرنسي والإنجليزي من العراق وسوريا واليمن وليبيا وغيرها بالتمائم والحجب المعلقة وخرز السحار أم بعاصفة من الغضب والزحف المقدس وآلاف الشهداء وأنهار الدماء؟ بل هذا الذي صار، هل وحد الملك عبد العزيز السعودية وقضى على عهد السلب والنهب وتقاتل القبائل وتعطيل قوافل الحج وفنون المشعوذين والسحرة والكهنة، هل قضى على ذلك ببطاقات معايدة أو كروت دعوة أم بسيف بتار؟ كما يقول الشاعر خلف بن هذال:

شاقني برقن سرى في مقاديمه سحاب كن فيه اسيوف عبد العزيز امسلله وكم يعجبني البيت الشارد الفذ الذي قاله ابن دحيم شاعر العرضة النجدية للملك عبد العزيز، حيث يقول:

نجد شامت لبوتركي وخذها شيخنا واخمرت عشاقها عقب لطم اخشومها أقول هذا وأنا أقرأ لبعض الكتاب الانهزاميين الذين أنكروا على الشعوب العربية طلب الحرية ودفع الدم الأحمر في سبيل ذلك، وطالب هؤلاء الموهومون بألا تكون مواجهات وإنما بطريق الحوار السلمي - يا سلام على الحوار السلمي - وهل يقتنع زين العابدين في تونس بالحوار السلمي؟ وهل يؤمن أصلا بالحوار؟ وهل يحترم العقل والنقل؟ وهو الذي فتك بالشعب التونسي فتكا وأذله إذلالا وحال بينهم وبين الإسلام، ووالله لو فاوضه شعب تونس مائة سنة ما أصغى لهم حتى خرجوا كالبحر المائج ففر كالفرس الهائج، هل يرضى حسني مبارك ويسلم للمصريين حريتهم بالمفاوضات وهو الذي خطط لابنه جمال ليكون خليفة من بعده يجثم على صدور المصريين أربعين سنة، ولكن أبطال العبور وهازمي العدوان الثلاثي رفضوا ذلك حتى أدخلوه الزنزانة «وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ» أحدهما جمال والآخر علاء؟ فأحدهما يحمل على رأسه خبز الشعب والآخر يعصر خمر اللذات؟ هل سيسلم القذافي السلطة بعد اثنتين وأربعين سنة أهان فيها ليبيا وسام الليبيين الأحرار، أحفاد عمر المختار، سوء العذاب؟ هل سيسلم لهم حريتهم بالنقاش والإقناع؟ كلا وألف كلا، لكن لما حمل الثوار البنادق وقدموا الأرواح وأرخصوا الدماء فر هو وأولاده كالجرذان من جحر إلى جحر؟ هل يؤمن بشار الأسد بالتداول السلمي للسلطة وهو الذي ورث أباه في خلافة مغولية بعد أن عدل الدستور السوري في ثلاث دقائق، حيث كان ينص الدستور على أن عمر الرئيس أربعون سنة ففتح على المجتمعين، لا فتح الله عليهم، واكتشفوا أنه يجوز أن يتولى الرئيس وعمره سبع وثلاثون سنة، ثم نكسوا على رؤوسهم، واكتشفوا ثانية أن هذا الرئيس هو الغلام بشار بن حافظ، فهتفوا في مجلس الشغب وليس في مجلس الشعب: «يَا بُشْرَى هذا غُلاَمٌ»، هل مثل هذا يستمع لصوت أو يبكي لفقيد أو يرثي لشهيد أو يرحم عجوزا أو يلطف بأرملة؟ لا والله بل بثمن الحرية الحمراء وهو دم أحمر يخرج من عروق مؤمنة بالله وتقطع معه رؤوس سجدت لله كما قال العبودي شاعر العراق لما أخرجوا المستعمر بعد تضحيات من الدماء والأرواح: ثمن المجد دم جدنا به فاسألوا كيف دفعنا الثمنا؟

والله لقد كان ثمنا باهظا ومكلفا ومتعبا وضخما، ولكنه ثمن الحرية الحمراء دائما وأبدا. قال زميلنا أبو الطيب المتنبي:

ومن طلب الفتح الجليل فإنما مفاتيحه البيض الخفاف الصوارم وقال في بيت باذخ جبار: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم