الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ١٠:٥٦ صباحاً

القضية الجنوبية.. نقاط على الحروف

د. عبدالله أبو الغيث
السبت ، ٣٠ مارس ٢٠١٣ الساعة ٠٧:٠٧ مساءً

أخيراً وبعد طول انتظار دارت عجلة مؤتمر الحوار الوطني في اليمن، وهو المؤتمر الذي تعلق عليه جموع الشعب اليمني من صعدة إلى المهرة آمالها بإنقاذ الوطني اليمني من حافة الهاوية التي يوشك أن يتردى فيها. ولن نكون مبالغين إن قلنا بأن نجاح مؤتمر الحوار – والنجاح وحده – هو ما ينتظره أبناء الشعب اليمني من ممثليهم في هذا المؤتمر.
لأنه في حال فشل المؤتمر لا يعلم إلا الله إلى أي مصير مجهول سنقود الوطن اليمني، وإلى كم أشطار سيتمزق، فاليمن في حال فشل المؤتمر - لا سمح الله - لن تبقى يمن أو حتى يمنين لكنها ستتشظى إلى يمنات عديدة، ولن يكون ذلك إلا عبر أنهار من الدماء سيقدمها البسطاء من أبناء الشعب اليمني ثمناً لأطماع بعض نافذيه الراغبين في السيطرة والهيمنة؛ سواء كانوا في الشمال أو الجنوب أو في جهات اليمن الأخرى.
ولم يعد يخفى بأن القضية الجنوبية هي أهم القضايا المطروحة على طاولة مؤتمر الحوار، والحلول التي سنقدمها لتلك القضية هي من ستحدد نجاح المؤتمر أو فشله، والنجاح لن يكون بعيد المنال عنا في حال صدقت نوايانا وفكرنا بعقولنا بدلاً من عواطفنا، لأن حقائق التاريخ والدين واللغة والجغرافيا والعادات تقول أن ما يجمعنا هو أكثر بكثير مما يفرقنا. وقد جعلنا ذلك نستعرض بعض اللغط الذي يشوب القضية الجنوبية على أمل المساعدة بتقديم حل مناسب لها، لأن التشخيص السليم للمرض يكون أساساً لتحديد العلاج الشافي له.

الوحدة مطلب جنوبي
دعونا أولاً نقول بأن جميع أبناء الشعب اليمني في الجنوب قبل الشمال يتفقون بأن الوحدة اليمنية كانت مطلباً جنوبياً قبل أن تصبح مطلباً شمالياً، فالوحدة اليمنية مثلت الحلم الذي هتف له أبناء الجنوب في مدارسهم ومعسكراتهم مع كل تحية علم، ورضعوا حبها صغاراً، وسعوا لتحقيقها كبارا.
في الوقت الذي كانت فيه الوحدة بنظر قوى الهيمنة في الشمال إنما تشكل عودة الفرع إلى الأصل، ليمكنهم ذلك من إضافة مساحة جغرافية جديدة يمارسون عليها هواياتهم المفضلة في الفيد والسلب والنهب، وإرواء جشعهم ونهمهم بالسيطرة والاستئثار، وفقاً لرغبة جامحة تربوا عليها تقوم على أساس إقصاء الآخر واعتباره تابعاً وليس شريكاً يمتلك حقوق المواطنة الكاملة.
ومع الأسف الشديد فقد استغلت تلك القوى الرغبة الجامحة للجنوبيين تجاه الوحدة، إلى جانب المتغيرات الإقليمية والدولية التي كان يمر بها العالم في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، بحيث جعلتهم يندفعون صوب وحدة اندماجية من غير أن يحصلوا على ضمانات تمنع الطرف الآخر من الانقلاب على اتفاقيات الوحدة الموقعة.. أقلها تخييره بين العاصمة والرئاسة، وعدم السماح له بالجمع بين وزارة المالية والبنك المركزي.

حقيقة حرب 94م
يردد كثير من أبناء الجنوب أن حرب صيف 94م كانت حرباً شمالية ضد الجنوب، وذلك أمر نرى أن فيه إجحاف ولي لحقائق التاريخ، فالمعروف للجميع بأن تلك الحرب قامت بسبب الصراع بين الأطراف السياسية النافذة آنذاك، وأن سببها المباشر إنما تمثل بهزيمة الحزب الاشتراكي - الذي دخل الوحدة ممثلاً للجنوب - في أول انتخابات برلمانية أجريت بعد الوحدة، مقابل المؤتمر الشعبي الذي دخل الوحدة ممثلاً للشمال ومعه حليفه تجمع الإصلاح.
وهزيمة الحزب الاشتراكي في تلك الحرب لا يعطينا الحق بتصوير هزيمته فيها وكأنها هزيمة للجنوب، ذلك أننا ندرك بأن الأيادي التي حسمت معركة 94 كانت أيادٍ جنوبية بدرجة أساسية (الزمرة ومن انضم إليها من أبناء الجنوب)، خصوصاً بعد إعلان نائب الرئيس على سالم البيض للانفصال في منتصف الحرب، حيث سبب ذلك صدمة قوية لأبناء الجنوب العاشقين للوحدة، وعلى رأسهم الجيش الجنوبي الذي كان ما يزال خاضعاً لسيطرة الاشتراكي، مقابل خضوع الجيش الشمالي لسيطرة المؤتمر، ولعل ذلك ما جعل الحرب تبدو وكأنها حرباً بين الشمال الجنوب.
ويرى كثير من الدارسين والمحللين أن ذلك الخطأ الاستراتيجي ساعد بإلحاق الهزيمة بالحزب الاشتراكي، وأن الحزب لو كان بدلاً من إعلان الانفصال اتجه صوب إعلان حكومة إنقاذ وطني لكل اليمن حتماً كان سيكسب المعركة، لأنه كان سيمكن كثير من القوى الشمالية والجنوبية من التمترس في صفه، لكنه صعب عليهم ذلك بتبني الانفصال تحت ضغط قوى إقليمية أرادت أن تصفي حساباتها مع اليمن بسبب موقفها من حرب الخليج الثانية.

نشوء القضية الجنوبية
لا يمنع قولنا بأن حرب 94 لم تكن حرباً شمالية ضد الجنوب من الاعتراف بأن نتائجها قد جعلتها تنحو نحو ذلك المنحى، ذلك أن الطرف المنتصر بدأ يشن حرباً ضروساً ضد كوادر الحزب الاشتراكي في المؤسسات المدنية والعسكرية، التي كانت في معظمها كوادر جنوبية، بحكم أن الحزب الاشتراكي كان حزباً حاكماً للجنوب قبل إعلان الوحدة اليمنية.
وقد رافق ذلك عملية نهب منظم للأراضي في الجنوب – التي كان الاشتراكي قد أممها سابقا – مع فارق أن الاشتراكي وزعها على مواطنين بسطاء بعقود انتفاع، بينما وزعتها سلطات المؤتمر الشعبي المنتصرة على مجموعة من النافذين والناهبين بصكوك تمليك، علماً أن معظم قوى الفيد تلك كانت تنتمي جهوياً للشمال، وهو ما عقد الأمر، وجعل الوحدة تبدو وكأنها مجرد هيمنة شمالية على الجنوب.
وذلك يجعلنا نصل إلى حقيقة ثابتة لا مجال لإنكارها أو تغطيتها؛ مفادها بأن القضية الجنوبية لم تنشأ من قبيل رفض الوحدة، لكنها نشأت من باب إنكار تلك المظالم والممارسات المدمرة للسلطات الحاكمة في دولة الوحدة منذ 94م، خصوصاً بعد ظهور الحراك المنظم ، الذي ظل يرفع سقف مطالبه كلما تمادت السلطة في رفضها وإنكارها، حتى وصل الأمر بالمناداة باستعادة الدولة الجنوبية من قِبل بعض أطرافه.

الاحتلال اليمني للجنوب!
لم يقتصر الأمر لدى بعض أطراف الحراك على المطالبة باستعادة الدولة الجنوبية فقط، لكنه أمتد لإنكار الهوية اليمنية لمحافظات الجنوب، ووصل إلى حد وصف الوحدة بأنها مجرد احتلال يمني لأراضي ليست جزء من اليمن أصلاً، وذهب البعض لاستخدام الاسم الاستعماري لبعض أراضي جنوب اليمن، وهي تسمية الجنوب العربي التي أطلقها الاستعمار البريطاني على الاتحاد الذي ضم محميات عدن الغربية من أرض الجنوب.
وحتى إن قبلنا جدلاً التعامل مع لفظ (الاحتلال) من قبيل التعاطف مع المظالم التي عانى منها إخواننا في الجنوب في عهد الرئيس السابق صالح، لكنه سيكون من الإجحاف استمرار الحديث عن (احتلال) يمني/شمالي للجنوب بعد عملية انتقال السلطة إثر ثورة اليمن الشعبية، حيث صار الرئيس اليمني جنوبي، مع رئيس حكومته ووزير دفاعه، وكذلك معظم المسؤولين في المحافظات الجنوبية (مدنيين وعسكريين وأمنيين) وعلى رأسهم محافظو المحافظات وقادة المناطق العسكرية والأمنية، الأمر الذي يجعلنا أمام مبالغة واضحة ونحن نتحدث عن احتلال شمالي/يمني للجنوب.
وفي مقابلة تلفزيونية جمعتني بأحد قيادات الحراك الانفصالي المشاركين في مؤتمر الحوار رد الضيف المشارك لي في البرنامج على رفضي لتسمية الاحتلال بأن الرئيس هادي ورئيس الوزراء باسندوة عاشوا معظم حياتهم في الشمال ولم يعودا ممثلين للجنوب، فقلت له بأن معظم أبناء الجنوب يعيشون في المهجر منذ عشرات السنين، وبهذا التوصيف الضيق والعنصري لأبناء الجنوب يمكن أن ننزع صفة الجنوبي عن الغالبية العظمى من أبنائه.

همجية الشماليين!
حجة أخرى طرحها شريكي في الحوار التلفزيوني المذكور لتبرير رفضه للوحدة، مفادها أن أبناء الشمال مجرد "همج وجبناء، ويمارسون المكر والخداع"!، وهو تعميم ظالم لا يتفق مع معطيات التاريخ والواقع.. فالهمجية سياسة لا ترتبط بجهات جغرافية بقدر ارتباطها بأشخاص وأطراف نافذه تمارسها بحثاً عن المصلحة.
وربط محاوري تعميمه للهمجية على أبناء الشمال بامتناعهم عن تسديد ثمن الخدمات التي يستهلكونها، ورفضهم الاحتكام للقضاء والمؤسسات الشرعية للدولة بعكس أبناء الجنوب حسب قوله، وهو تعميم لا يمكن إطلاقه هكذا على علاته؛ سواء فيما يخص أبناء الشمال أو الجنوب، وقد جعلني ذلك أنبهه بأنه من الخطأ أن نقيس الأمور من زاوية واحدة، وذكرته بأن ضحايا الحروب الدموية في الجنوب من الاستقلال حتى الوحدة كانت أكثر من ضحايا الحروب في الشمال، وأن عدد الضحايا قد وصل في يناير 86م فقط إلى قرابة خمسة عشر ألف قتيل خلال أيام معدودات.
أما مسألة التزم الناس بالقوانين والأنظمة فلا علاقة لها بالانتماء الجهوي، لكنها ترتبط بمدى جدية سلطات الدولة على فرض سلطاتها وقوانينها على كل أبناء الدولة، بدليل الانضباط الكامل الذي يبديه اليمنيون خارج اليمن؛ وفي مقدمتهم من ينتمون للمناطق القبلية، مع أنهم يستقوون بقبائلهم داخل اليمن لرفض الانصياع لسلطات الدولة وقوانينها، وهو ما يجعلنا نعمل على إيقاد الشموع بدلاً من الاكتفاء بكيل اللعنات على الظلام.

الانفصال مصلحة!
سمعنا كثيراً – بما فيها طروحات داخل أروقة مؤتمر الحوار – بأن الوحدة ليست غاية بحد ذاتها، لكنها وسيلة لخدمة الناس ورعاية مصالحهم، وأن انتفاء تلك المصلحة يعني انتفاء الحاجة لبقاء دولة الوحدة، وذهب بعضهم لضرب أمثلة بالإخوان الذين يتقاسمون ميراث أبيهم عندما يعجزون عن التعايش فيما بينهم.
ونحن إذ نوافق ذلك القول كمبدأ عام، لكننا نعترض عليه عندما يؤخذ من منظور جزئي، وتصبح المصلحة التي نبتغيها من رفض الوحدة هي مصلحة لأبناء جهات معينة، وليست مصلحة جمعية لكل أبناء الشعب اليمني، وتسليمنا بمنطق المصلحة الجزئية سيجعل منه وسيلة لتفكيك اليمن إلى دول متعددة وليس إلى دولتين، ومعها كل الدول العربية وغيرها من دول العالم الأخرى، بحيث تطالب المناطق الثرية في كل دولة بالانفصال عن دولها، رغبة منها بالتمتع بثرواتها بعيداً عن بقية أبناء الشعب الذين يشاركونهم العيش على ثرى الوطن الواحد، ولن تسلم منه حتى الدولة الجنوبية في اليمن في حال انفصالها، فلن يستطيع أحد أن يمنع مناطقه الثرية من المطالبة بالانفصال بحجة أن الانفصال صار مصلحة لها.
وبدلاً من ذلك أعتقد أنه سيكون من الأنسب لو نظرنا للمصلحة من منظور وطني شامل، بحيث نصحح الاختلالات التي شابت عملية الشراكة الوطنية في السلطة والثروة، ونضع الضمانات الكافية والآمنة التي تمنع مصادرة دولة الوحدة اليمنية من جديد من قبل هذا الطرف أو ذاك. وكم سيكون رائعاً ومفيداً لو أن أطراف الحراك الجنوبي في مؤتمر الحوار تقدموا بحلول للقضية اليمنية برمتها، ساعتها فقط سيدركون أنهم بذلك قد وفروا الحل المنطقي والواقعي لقضيتهم الجنوبية، لأنها لم تنشأ إلا في ظل الاختلالات التي سادت الوطن اليمني ككل.

الحوار بين دولتين
تتشدد بعض أطراف الحراك الجنوبي تجاه عملية الحوار، وتشترط للدخول في الحوار أن يكون بين دولتين جنوبية وشمالية، ولا أدري على ماذا سنتحاور ساعتها، لأن تسليمنا بوجود دولتين يمنيتين لن يحتاج منا إلى حوار، وسيصبح كل ما نريده هو التوافق على فريق من القانونيين الشماليين والجنوبيين ليقوموا بصياغة وثيقة الانفصال.
وطالعتنا بعض أطراف الحراك بما أسمته (قوائم العار) لأعضاء الحراك الجنوبي في مؤتمر الحوار الوطني، مع أن كثير منهم هم من دعاة الانفصال، وكان غريباً أن نسمع تصريحاً لأحد القياديين في الحراك الانفصالي المتطرف يخون فيه الجنوبيين المشاركين في الحوار، ويعلن أنه سيتم منعهم من العودة للجنوب! وكأن صاحبنا قد أصبح وصياً على الجنوب كله! بموجب صك صار يحتفظ به في جيب سرواله الداخلي!
وما زال يحدونا الأمل أن تلتحق بقية أطراف الحراك بمؤتمر الحوار، خصوصاً بعد أن شاهدنا عبر شاشات التلفاز بأن الأغلبية الساحقة من أعضاء المؤتمر - الشماليين منهم قبل الجنوبيين - باتوا صوتاً واحداً مطالباً بتوفير حل وطني آمن وعادل للقضية الجنوبية، وذلك بعد إرجاع المظالم التي أدت لظهور تلك القضية، ما يعني أن القضية الجنوبية قد صارت قضية معظم أبناء الشعب اليمني، وأعتقد أن ذلك سيعد أكبر ضمانة لصياغة مستقبل جديد لدولة يمنية مدنية موحدة على كامل تراب الوطن اليمني القابع في جنوب جزيرة العرب.

خلاصة القول
إن مشاكلنا التي نعاني منها في كل مناطق الوطن اليمني لم تنتج بسبب الوحدة، لكنها نتجت بسب تغول الفساد والاستبداد، واستئثار قلة قليلة بمقدرات الوطن من دون الآخرين الذين تم إقصاءهم، مع غياب كامل للعدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية، ورفض أسس الشركة الوطنية في السلطة والثروة، وهو ما يجعلنا نتمنى على مؤتمر الحوار الوطني أن يخرج لنا بحلول واقعية تنهي كل ذلك، وتمنع عدم انتاجها من جديد، ساعتها فقط ثقوا بأننا لن نعدم الوسائل للتعايش فيما بيننا.
وعلينا فقط أن نجيل النظر فيما حولنا من دول العالم المختلفة، التي تمكنت من التوافق على أسس للتعايش بين شعوبها، رغم الاختلافات الظاهرة بينهم؛ والمتمثلة بتعدد دياناتهم وثقافاتهم ولغاتهم وأعراقهم وسعة مساحات دولهم وكثرة سكانها (الهند مثلاً)، وهي تباينات لا توجد بين أبناء شعب اليمن المتجانس في مختلف مجالات حياته.
وأخيراً نقول: بأن الجبال وحدها هي التي لا تتزحزح عن أماكنها، أما البشر الأسوياء فهم يكيفون أنفسهم مع المعطيات الجديدة التي تستجد على حياتهم، وكل المعطيات من حولنا تقول بأن القادم في حياة اليمنيين سيكون أفضل بأذن الله؛ إن صفت القلوب وصدقت النوايا، وتقبلنا بعضنا.. فلسنا بدعة بين الشعوب والأمم.