الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٤:٤٧ مساءً

النموذج التركي ونظرية المؤامرة

محمد عارف
الأحد ، ١٨ سبتمبر ٢٠١١ الساعة ١٢:٠١ مساءً
منذ ظهور الدولة التركية الحديثة أوائل العشرينات وحتي عهد قريب هي في صراع مرير مع الدين ومظاهره وطقوسه وشعاراته... بصورة لم يسبق لها مثيل إلا في روسيا البولشفية أو ثورة الصين الثقافية، لقد آمنت تركيا بالعلمانية وتعصبت لها ثم تشددت فيها لدرجة أن الأوربيين وعموم الغرب (مخترعي العلمانية) ابدوا إستياءهم مرارا وبصورة علنية من هذا الغلو ، في سبيل العلمانية تبددت الديمقراطية في تركيا فكان العسكر يطيحون برئيس الوزراء المنتخب بسهولة وأحيانا في غضون أسابيع من توليه السلطة لمجرد أن عواطفه الدينية مريبة.

فجأة وبعد كل ذلك التاريخ المجافي للدين ولكل ماله علاقة به (كالعرب أو القضية الفلسطينية) يظهر أردوغان زعيما إسلاميا محبوبا يجوب العواصم العربية كما لو كان (محمد الفاتح) ويقدم كبطل شعبي متكامل ويقدم نظامه كانموذج مثالي جدير بالعبادة، وصار يتبني القضايا العربية والمواقف الإسلامية في المحافل الدولية، وينافح عنها بصورة درامية مذهلة.

إن هذا الإنعطاف الحاد في التوجهات والسياسات التركية مثير للريبة ويذكر بنظرية المؤامرة التي نكرهها ونكره تصديقها -لأننا لا نملك الأدلة الموضوعية الكافية لتصديقها- فهناك مستجدات خطيرة ظهرت في المنطقة شكلت مايمكن أن تكون اسبابا مقنعة لهذا التحول التركي.

- ابرزها قيام الثورة الإسلامية في إيران وانتشار تأثيراتها في كامل المنطقة ووصولها إلي تخوم تل أبيب محمولة علي صواريخ حزب الله

- ظهور الجماعات الإسلامية المسلحة علي امتداد العالم الإسلامي كتنظيم القاعدة وطالبان والعشرات من التنظيمات الجهادية

- تضاؤل الأحلام التركية في الإلتحاق ببلاد الضباب والنور(أوربا) ويأسها من تحقق ذلك الحلم ووقوفها علي واقعها الثقافي والاثني والتاريخي والجغرافي.. المختلف كثيرا عن الواقع الأوربي والذي لا يبرر كتيرا إندماجها في أوربا.

-لذلك فقد قررت أمريكا حمل الهم التركي بدلا عن الأوربيين وتوظيفه لخدمة مصالحها كما فعلت بشأن الهم الإسرائيلي.
وكانت استجابة تركيا سريعة للاستقطاب الأمريكي، فحدث بعدها تقارب أمريكي تركي سهل وسريع، إثر ذلك مباشرة تطورت العلاقات التركية الإسرائيلية بنفس السرعة وقعت عدة معاهدات عسكرية واستراتيجية، ثم استطاعت أمريكا أن تقنع تركيا أن من الأفضل لها أن تكون زعيما وقائدا للمتخلفين خير من أن تكون في مؤخرة المتقدمين (أوربا) فكان الارتداد الحاد إلي الحذور وظهر أردوغان وحزبه واستلم قيادة تركيا دون أن يزيحه العسكر، بل أعلن نهاية سيطرة العسكر علي الحكومات وسن قوانين تكبلهم وتنهي تدخلاتهم في الحياة السياسية (كل ذلك والعسكر مستسلمون وخانعون لايحركون ساكنا)
وهاهو النموذج التركي يظهر في إزاء النموذج الإيراني والنموذج المشايخي الخليجي، وهاهو الوطن العربي يساق إليه طواعية أو كرها.

هذا النموذج رأت أمريكا أنه الأنسب لمجتمعاتنا العربية ولها أيضا: ديمقراطيات إسلامية واقتصاد رأسمالي حر وإشراف عسكري موال لأمريكا، (مثلا:بينما أردوغان في زيارة جماهيرية لمصر كان الخبراء العسكريون الأمريكيون ينصبون منظومة صواريخ في تركيا لحماية إسرائيل من هجمات صاروخية محتملة عليها)

بدأت تظهر ملامح التحول في مصر أكثر حيث نلاحظ ونتوقع صعود التيارات الإسلامية المعتدلة والتي اصبحت تتبني العلمانية، ورأينا كيف كان تأثير المؤسسة العسكرية حاسما في الثورة المصرية ومعروف مدي ارتباطها بأمريكا ومدي التأثير الأمريكي عليها، وهذا يفسر النجاح السريع للثورة المصرية، ويفسر أيضا بطأها أوتعثرها في ليبيا أو سوريا أو اليمن أو حتي تونس حيث علاقات أمريكا بالمؤسسات العسكرية هنا ضعيفا أو منعدما، هذا يفسر أيضا إصرار أمريكا علي حل الجيش العراقي السابق وتسريح أفراده واستعداد أمريكا لتحمل التبعات والعواقب الوخيمة لهذا القرار ، كمايفسر بطئ سقوط نظام القذافي خاصة بعد دخول الناتو الحرب مع الثوار فبخلاف تصريحات قادة الناتو أن إسقاط القذافي لن يستغرق سوي أسابيع استغرقت الحرب أشهرا وتزامن سقوط القذافي مع التدمير الكامل والنهائي للجيش الليبي واغتيال قائد الجيش(عبدالفتاح يونس) الذي لم تشفع له ثوريته.

إن أمريكا وحلفها يصنعون أنظمة إسلامية -علي الطريقة التركية- في مواجهة النظام الإسلامي الإيراني والحركات الإسلامية المسلحة، ويرون أن هذه الطريقة هي الأفضل لأن الأنظمة الإسلامية هي الأكثر مقدرة علي كسب ثقة الشعوب في المنطقة، ولأن ابتعاث الفكر السني هو بمثابة ترسيم واضح للحدود الثقافية مع الإيرانيين وحتي مع الجماعات الجهادية المسلحة فالحدود العقائدية أكثر صلابة ووضوحا ومنعة.

لا أزعم هنا أن هذا المنعطف الإجباري الذي نمره إلي النموذج التركي سيئا بل إن هناك إحتمالات كبيرة أن يحصل الإنسان العربي علي حقوقه وحرياته السياسية والثقافية والإقتصادية... كل مافي الأمر هو أن الوعي وفهم حركة المجتمع الحالية هي ضرورية للإستفادة الأمثل من مايحصل
فنحرص علي أن لا يكون ثمن تخلصنا من الأنظمة العبثية السابقة هو مزيد من استلاب الكرامة بشأن قضايانا الكبري كالقضية الفلسطينية أو مزيدا من الاستبداد الديني وأن لا ننجر إلي حروب طائفية لاتهم إلا أمريكا وإيران وأن نعمل جاهدين علي بناء مؤسسات عسكرية وطنية ومستقلة لا تتدخل أو تؤثر في الحكومات المنتخبة، وعلي التيارات الإسلامية أن لا توفر الغطاء الشعبي والشرعي لحكم عسكري خفي وقوي ونافذ.