الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٥:١٥ مساءً

صحافة " العوبلي "

عبدالوهاب الشرفي
السبت ، ١٨ مايو ٢٠١٣ الساعة ٠٢:٤٠ مساءً
لا أجد مبررا لأحد يسفه غيره لأنه اتجه فكريا إلى أقصى اليمين أو إلى أقصى اليسار. فمن حق كل إنسان أن يفكر كما يريد، وأن يتبنى وجهة النظر التي تقنعه. ولا مبرر لأن يسقط أحد هذا الحق عن غيره كونه لا يتوافق معه في وجهة النظر، فما من ميزة يمكن أن تتوافر في شخص ولا تتوفر أبدا في شخص غيره. فاحتمال الصواب قائم للجميع تماما كما هو قائم احتمال الخطأ. وليس هناك أحد يتفرد بمطلق المعرفة، ولا أحد يحتكر حق فهم الأمور على حقيقتها. وبلغة لابسي عباءة الدين ليس ثمة بيننا معصوم.

لا يزعجني من يخالفني في الرأي أو في الرؤية. لكن يزعجني من يستخف بعقلي، ويتعامل معي وكأني لا أفهم شيئا، وأنني وعاء له الحق أن يصب فيه "زيته" حتى ولو كان هو أول من يعرف أن هذا الزيت "حارق".

هذا الكلام أقوله للكثير ممن يعملون في "وسائل إعلام" تيار سيعرف نفسه، وسيعرفه القارئ بسماته. وسأبصم بأصابعي الـ10 على أن لهذا التيار كامل الحق في امتلاك أية وسيلة إعلام كانت، ومن "المنشور" إلى الصحف ومواقع الانترنت والفضائيات، وله الحق في ذلك تماما كما هو الحق لغيره. ولكن عليه أن يستخدمها وفق الأصول والأخلاقيات المتعارف عليها بين من يمتلكون أو "يشغّلون" أية وسيلة إعلامية.

تزعجني "صحافة" هذا التيار كثيرا، وقبل انزعاجي أجد أني أرثى له. فأول ما يجب أن يتحلى به من يريد أن يدير وسيلة إعلامية تخاطب الجمهور، هو أن ينطلق من احترام هذا الجمهور. لا يهم في هذا الموضوع أن يكون المسمى مؤسسة أو دار نشر أو مجموعة أو... أو...، ولا يهم كذلك أن تكون الوسيلة المستخدمة ملونة و"مزهنقة" ومخرجة وفق أعلى مستويات الإخراج.. كل هذا لا يغني عندما لا تحترم هذه الوسائل قراءها عند اختيار المواد التي تنشرها عليهم.

الصحافة مهنة وصناعة ليس لها معايير واحدة في طبيعة المواد والمواضيع التي تتعاطى معها، ولكن لها ضوابط تحكم أداءها. وهناك ما اسمه أخلاقيات المهنة. فعندما تطرح خبرا يجب أن يكون خبرا بالفعل، وله مصادره وله وقائعه. وعندما تنشر مقالا أو تحليلا يجب أن يكون ذلك عن موضع "حقيقي" ولكاتب أو لصحفي أو لمحلل "يفكر"، ولديه ما فعلا ما يقدمه.

هذا هو ما تفتقده صحافة هذا التيار. الصدق، الواقعية، الحقيقة... هذه المفاهيم أثبتت صحافة هذا التيار أنها معها في جفاء تام. وقد تحولت إلى "مطابخ"، لا تفتش هنا وهناك عن خبر أو عن مادة تكون ذات مواصفات جيدة لتقديمها لجمهورها، وإنما "تطبخ" ما "تعلف" به من اعتادوا على "تناول العلف" الذي يختار نوعيته لهم "رعاتهم". إنهم "ينتجون" و"يخترعون" و"يحضّرون" و"يصنعون" كثيراً من الأخبار والمواد التي يقومون بنشرها.. إنهم يكذبون وهم على وعي كامل بأنهم يكذبون، ولديهم لا مانع ولا محذور طالما أن هذا الكذب -كما يتوهمون- هو في صالح سياسات ومواقف و"حروب" تيارهم.

صدقوني إنني أشعر أنني أقرأ "الأبراج" وتوقعات العرافين وخرافات الكهان عندما أطالع كثيراً مما تنشره وسائل إعلام هذا التيار.. نبوءات، قفزات، "خرط"، هذيان، تلفيق، غباء، استغباء. هذا هو ما أقرؤه في وسائل إعلام هذا التيار. يكذبون للتمهيد لأخطائهم، كما كذبوا أن مقاتلين من حزب الله وبعدها من الحوثيين يقاتلون في سوريا بجانب النظام، ولنكتشف أن هذا التيار يسيّر الآلاف من غير السوريين ليقاتلوا مع "جيش غير النظام" ضد "جيش النظام". ويكذبون لتغطية أخطائهم، ولصرف الأنظار عن فعائلهم، كما كذبوا عن سفن سلاح من إيران لتغطية أو "معادلة" الأخبار الصادرة من جهات رسمية معنية، عن سفن السلاح القادمة من تركيا.

ويكذبون للهروب من التزاماتهم، كالكذب عن تحقق أهداف الثورة، لنكتشف أن لهم ثورتهم، ولهم أهدافهم التي انتهت عند "دس" رؤوسهم في "عفن" النظام، فشاركوه، وكما يثيرون من وقت لآخر موضوع "الحصانة" -"للي ذراع" خصمهم- وفي ذات الوقت شريكهم - وهم من ارتضى "مبادرة الحصانة"، وروج لها وفرضها ووقع عليها، وكما "أمطرونا" بأخبارهم وتحليلاتهم ومقالاتهم عن استحالت صدق محور المقاومة في مواجهة إسرائيل، ولنجد أنهم من يحافظ على كل "الموروث" في العلاقة مع إسرائيل، حتى في اقتصار "نجدتهم" لإخوانهم فقط "بالأسبرين". ويكذبون لصرف الانظار عن " فعائلهم " كالحديث عن أن الحوثيين يقتلون ويحاربون ويخربون فيصورون الحال أن الحوثيين بالأسلحة و"أصحابهم" يقابلونهم بالورود , وكالحديث عن ان الرئيس علي سالم البيض والحراك الجنوبي مدعومون من ايران لتمزيق اليمن ؟! .

ويكذبون ليؤثروا على غيرهم، و"للدّهف" بأجندتهم، كما "غثوا" بنا أخباراً عن قرارات ستعين كذا وكذا، وقرارات ستقصي كذا وكذا، وهذا سيغادر وهذا يهدف، وأزمة بين هذا وهذا... ولنكتشف في ما بعد أن كل هذا هو ما كانوا يريدونه، لا ما حدث، ولا كان في ما تم مناقشته، ولا حتى ضمن ما كان مطروحا أصلا.

هناك مهنة اسمها صحافة، وهناك مهنة أخرى اسمها عرافة، وباليمني "تبشيع" أو "عوبلة" (نسبة لأبرز رجال هذه المهنة في اليمن "العوبلي"). وهاتان المهنتان أصبحتا لدى هذا التيار مهنة واحدة، فلا فرق "جوهري" بين الصحافة وبين "العوبلة"، ولا ما يميز بين صحفي وبين "عوبلي". كلاهما يتنبآن، وكلاهما يوردان من الأخبار ما لا يمكن الجزم بواقعتيه، فضلا عن صدقه، وكلاهما يتحدثان بالقفزات وبالمدهش وباللامعقول، وكلاهما يريان ما لا يراه غيرهم. وكل هذا يحدث فقط مع صحفيي هذا التيار أو "عوبلييه".

ألا يشبه الحديث الذي تلوكه صحافة هذا التيار عن الرافضة وعن سب الصحابة وعن المتعة وعن التقية وعن الخمس في اليمن الحديث عن السحر المعقود والمرمي في بئر في أحد الأودية الذي تجري فيه سبعة "غيول".. ألا يشبه الحديث عن تحالف بين "الحوثيين" وبين علي صالح، الحديث عن "عزيمة" زرعت المحبة في قلوب طالما كرهت بعضها بعض؟ ألا يشبه الحديث عن أن كل ما يحدث من المشكلات هو من عمل "عفاش" وبقايا العائلة، الحديث عن أن فلاناً يصنع كل المصائب في قريته للانتقام من فلانة التي رفضت الزواج به، ولا يمكن "يفعل بواطل" في القرية إلا هو..؟

أحسست بالشفقة على أحد كتاب هذا التيار قرأت له مقالا عن الاغتيالات التي يشهدها البلد باستخدام "الموترات". وقد كان "رأيه" أن هناك علاقة للحرس الثوري الإيراني بهذه الاغتيالات، لأن ذلك الحرس يستخدم "الموترات" أيضاً... كم هو حجم "الإشغال" الذهني الذي استنفده هذا الكاتب أو هذا "العوبلي" للوصول لهذا الربط؟! كم هو التفكير والتخيل والتصور الذي استغرقه للخروج بهذه الفكرة التي فقط وفقط تضحك. بالله عليكم ألا يدعو ذلك فعلا للإشفاق عليه؟

لا أطالب صحافة هذا التيار بأن يحترموا خصومهم، بل أطالبهم "بعض الشيء" بأن يحترموا الجمهور، فيقدموا له الأخبار والمواد بأسلوب مهني، لا بأسلوب عبثي، وأطالبهم "كل الشيء" بأن يحترموا أنفسهم، فيقدموا الخبر لأنه فعلا خبر، ويطرحوا الرأي والرؤى لأنها قناعاتهم وتقييمهم وتحليلهم للأمور والأحداث، لا لأنها ترضي من "يستخدمهم". يجب أن يعي هؤلاء أنهم صحفيون، وأن مهنتهم هي الصحافة، ويجب أن يقدموا المواد التي تنسجم مع ذلك، لا أن يقدموا ما هو مطلوب لتيارهم حتى لو خالف المهنة والعقل والحقيقة والواقعية، فمن يقدم "السماجات" قبل أن يكون لا يحترم عقل غيره، هو لا يحترم عقله عندما يقبل بأن تصدر أو أن تنسب "السماجات" إليه.. ليخجل ذلك القابع في المؤسسة يبث "العبث" في المجتمع، بدأها بسرقة أبيه، ومستمر على ذلك، وليخجل من يحقن الأهالي بالوهم والقفزات والتخيلات والفهلوات والزيف، وليخجل ذلك الذي ينشر على الناس اللامنطق واللامقبول والمضخّم والوهمي. يا هؤلاء خالفوا غيركم ما أردتهم، ولكن احترموا عقول غيركم، واحترموا عقولكم قبل ذلك.. يا هؤلاء كونوا صحفيين، وامتهنوا الصحافة.