الثلاثاء ، ٢٣ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ١٠:٥٠ صباحاً

رحلة كفاح اليمنيين لبناء دولتهم العصرية

د. عبدالله أبو الغيث
الأحد ، ١٩ مايو ٢٠١٣ الساعة ٠١:٤٠ مساءً
سنعمل هنا بصورة عامة على تتبع كفاح الشعب اليمني خلال تاريخه المعاصر من أجل تأسيس دولته العصرية التي يحلم بها، متمثلة بدولة المؤسسات والعدالة، الدولة التي يتساوى جميع مواطنيها في الحقوق والواجبات أمام سلطة القانون بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية والفئوية والمذهبية والمناطقية، دولة تكون سلطاتها في خدمة الشعب وتوفر له حياة الرفاهية والحرية والديموقراطية والحياة الكريمة.

وسنركز بدرجة أساسية على استعراض الدعوات والجهود التي نادت وعملت على تحويل الدولة اليمنية المعاصرة إلى دولة عصرية، وماهي العوائق التي وقفت في طريق ذلك التحول المنشود خلال مئة عام؛ بدأت بصلح دعان عام 1911م، وانتهت بثورة اليمن الشعبية عام 2011م.

صلح دعان نواة لظهور الدولة اليمنية الحالية
يمثل صلح دعان نقطة البداية لظهور الدولة اليمنية الحالية في تاريخها المعاصر، حيث اعترف الأتراك للإمام يحي بموجبه بسلطات شرعية وإدارية على مناطق اليمن الواقعة في أقصى شمال اليمن الخاضع لهم، وقد أنهى ذلك الاتفاق سلسلة من الحروب التي دارات رحاها بين الطرفين.

استمرت الهدنة بين الطرفين إلى نهاية الحرب العالمية الأولى 1918م، التي انتهت بهزيمة الألمان وحلفائهم العثمانيين، حيث عملت الدول الأوربية المنتصرة على تقاسم ما تبقى من تركة الدولة العثمانية، عدا منطقة شمال اليمن التي سلم الأتراك مقاليد حكمها للإمام يحي فأعلنها مملكة خاصة به وبأسرته.

لم تستتب الأمور في شمال اليمن للإمام يحي حيث قامت ضده العديد من التمردات في أكثر من منطقة؛ مثل الزرانيق وحاشد والمقاطرة وعبيدة ومراد، لكنه في نهاية المطاف تمكن من فرض هيمنته على شمال اليمن وفرض عليها عزلة رهيبة، حيث ظلت البلاد تدار بطريقة تقليدية، ولم تعرف حكومة تنفيذية حديثة بحقائب وزارية متعددة ومتخصصة، رغم أن مثل تلك الحكومات قد تكونت في الممالك العربية المعاصرة.

وحتى مظاهر الحياة العصرية التي كانت قد بدأت بالظهور في عهد الأتراك – على قلتها - عمل الإمام على تعطيلها قدر الإمكان، مثل صحيفة صنعاء التي تم إيقاف صدورها حتى عام 1926م عندما عاودت الصدور باسم صحيفة الإيمان، وكانت أقرب إلى المنشور منها إلى الصحيفة، وصارت تصدر في كل شهر مرة.

تجزئة اليمن وبروز الحركة الوطنية
دخلت مملكة الإمام يحي في صراع نفوذ مع قوى الاستعمار البريطاني في جنوب اليمن انتهى بتوقيع اتفاقية الحدود بين الجانبين في عام 34م. وقد شهد العام نفسه أيضاً توقيع اتفاقية الحدود في الطائف بين اليمن والمملكة العربية السعودية، التي ضمت السعودية بموجبها الأراضي اليمنية في جيزان ونجران وعسير، ورغم كونها اتفاقية مؤقتة مدتها عشرون عاماً إلا أن السلطات اليمنية المتعاقبة ظلت تجددها باستمرار حتى حولت إلى اتفاقية دائمة - عرفت باتفاقية جدة - عام 2000م بعد تجريدها من المزايا التي كانت تمنحها اتفاقية الطائف للجانب اليمني.

أدى توقيع الإمام يحي لاتفقيتي الحدود مع المستعمر البريطاني في الجنوب والمملكة السعودية في الشمال إلى تأجيج المشاعر الوطنية لدى اليمنيين تجاه حكم الإمام يحي واعتباره مفرطاً بالتراب الوطني لليمن الكبير، وقد استغلت النخب الوطنية تلك المشاعر بغرض تحريك المياه الراكدة والضغط على الإمام من أجل إصلاح الأوضاع صوب تأسيس دولة عصرية حديثة، حيث تداعت تلك النخب لتجميع جهودها في هيئات منظمة، فظهرت هيئة النضال، ونادي الإصلاح الأدبي، وجمعية الأمر بالمعروف، وغيرها من الهيئات التي بلغت أوجها بتأسيس حزب الأحرار الدستوري بقيادة أحمد محمد نعمان ومحمد محمود الزبيري، وإلى هذا الحزب يعود الفضل بدرجة أساسية في التخطيط والتنفيذ لثورة 1948م.

وكان أحرار اليمن قد أعدو قبل تفجير ثورتهم الميثاق المقدس ليكون بمثابة الدستور لدولة إمامية دستورية خططوا لإقامتها في شمال اليمن عقب القضاء على حكم الإمام يحي. وقد فشلت ثورة 48م لعوامل عدة تكاتفت فيما بينها، كان منها الشكوك والخلافات التي نشأت بين الأحرار وعبدالله الوزير إمام الثورة الدستورية، وكذلك توجس المملكة العربية السعودية من برامج الأحرار الإصلاحية، واحتجازها في الرياض لبعثة الجامعة العربية التي طالب الأحرار بقدومها لاستطلاع رغبة الشعب اليمني، يضاف إلى ذلك الجهل الذي كان يغط فيه أبناء الشعب اليمني، الأمر الذي مكن ولي العهد أحمد حميد الدين من إلصاق تهم الفسوق والكفر بالأحرار.

ولأن التوعية التي مارسها الأحرار بثورتهم ودواعيها الوطنية كانت مقتصرة على النخبة فقد صدق الناس ذلك، وأظهر كثيرا منهم التعاطف مع ولي العهد، ما مكنه من الزحف على صنعاء ببعض القبائل المحيطة بها، حيث تمكن من القضاء على الثورة وانتهى الأمر برجالاتها بين قتيل وسجين، واعتلى السيف أحمد عرش اليمن.

ورغم أن الدستور (الميثاق المقدس) قد ساعد بدرجة كبيرة في القضاء على الأحرار وثورتهم بسبب انتشار الجهل والشائعات التي روجت من حوله، إلا أنه يحسب له أنه قد اشتمل على أسس لبناء دولة يمنية حديثة وديمقراطية تواكب العصر الذي تعيش فيه، ولا تزال بعض بنوده عبارة عن مطالب لم تتحقق حتى يوم الناس هذا، مثل حديثه عن الحكم المحلى، وكذلك منح المغتربين اليمنيين خارج الوطن حق التصويت واختيار ممثليهم في مجلس الدولة التشريعي.

اليمن من الإمامة إلى الجمهورية
استتبت الأمور للإمام الجديد بعد تنكيله بالثوار واستمراره في أخذ أبناء المشائخ والأعيان رهائن لديه ضمان لولاء آبائهم وعدم تمردهم عليه، وقد استمر نظام الرهائن هذا معمول به بصورة رسمية حتى قيام ثورة سبتمبر62م، ورغم أن حكومة الثورة قد اتخذت قراراً بإلغائه إلا أنه قد استمر بطريقة غير رسمية حتى يوم الناس هذا، حيث تعد اليمن من البلدان القلائل التي تمارس أجهزتها الأمنية عملية أخذ بعض المواطنين رهائن لديها من أجل إجبار أقاربهم المطلوبين لها لتسليم أنفسهم، في مخالفة صريحة للنصوص الشرعية والقانونية المعمول بها.

تجدر الإشارة أن الإمام احمد قد نقل عاصمته من صنعاء إلى تعز، وظل يحكم منها مواصلاً نهج أبيه الانعزالي المتسلط، الأمر الذي أدى إلى بروز بعض الانتفاضات القبلية ضده. وكذلك بروز معارضة عسكرية من قبل بعض أفراد الجيش؛ مثل انقلاب 55م، ومحاولة بعض الضباط الشباب اغتياله في الحديدة عام 61م، والتي توفى الإمام متأثراً بجروحه منها بعد ذلك.
ويلاحظ أن مصر عبدالناصر وغيرها من الدول العربية قد رفضت الاعتراف بانقلاب 55م لارتباط بعض قادته بدوائر الامبريالية العالمية، وقد شجع ذلك قادة الأحرار على اتخاذ موقف معادي له وفي مقدمتهم النعمان والزبيري، ويبدو أن تلك المواقف قد أثرت بالإمام أحمد الذي بدأ في تنفيذ العديد من المشاريع التنموية الملموسة، يأتي في مقدمتها الطرق الإسفلتية التي ربطت بين المدن الرئيسية الثلاث: صنعاء وتعز والحديدة.

ذكرنا أن محاولة اغتيال الإمام أحمد في مستشفى الحديدة قد أصابته بجروح بليغة، لكن الأهم من ذلك أنها قد أسقطت عنه الهالة الأسطورية التي راجت عنه من كونه يمتلك زمام الجن وله جسد لا تخترقه الرصاص، وكان الناس يصدقونها بسبب جهلهم. وقد شجع ذلك العديد من الضباط الأحرار على تشكيل تنظيم لتفجير الثورة وإعلان النظام الجمهوري بديلاً للإمامة، وقد واتتهم الفرصة لإعلان ذلك في 26سبتمبر 62م بعد أسبوع من إعلان وفاة الإمام أحمد وتنصيب ابنه محمد البدر خليفة له.
تمكن البدر من الهرب إلى السعودية، وشن بمساعدتها ومعها قوى الرجعية والاستعمار العالمي حرب مضادة للقضاء على الثورة ونظامها الجمهوري، الأمر الذي دفع بالثوار لطلب العون العسكري من مصر، حيث لبى الزعيم جمال عبد الناصر طلبهم وأرسل قوات لدعم ثورة اليمن، استمرت فيها حتى نكسة حزيران 67م، التي جعلت المصريين يسحبون قواتهم المتمركزة في اليمن بعد أن رتبوا للأمر مع الطرف السعودي بوساطة عربية.

تبع ذلك عقد مصالحة بين القوى الجمهورية والملكية تم التمهيد لها بانقلاب نوفمبر67م الذي أطاح بالرئيس السلال وسلم الحكم لمجلس جمهوري بقيادة القاضي الإرياني، وتمت المصالحة بشكلها النهائي في عام 70م على أساس بقاء النظام الجمهوري، مع تعيين ممثلين للملكيين في مؤسسات الدولة.
أثرت الحرب الأهلية اليمنية التي أعقبت ثورة سبتمبر سلباً على بناء الدولة العصرية التي كان يحلم بها الثوار، لكونها قد فرضت هيمنة شيوخ القبائل على شؤون الدولة، بسبب سعي طرفي الحرب على كسب مواقف تلك القبائل إلى صفهما، وهو ما أفضى إلى إضعاف سلطة الدولة وهيبتها، وقد أدى تعاظم نفوذ القوى التقليدية إلى إثارة التحسس لدى القوى اليسارية والقومية من ذلك الوضع، ورغم أن الأمر في بدايته قد تمثل في صراع بين القوى القبلية والمحافظة من جهة وبين القوى اليسارية والقومية من جهة أخرى إلا أنه سرعان ما أخذ بعداً طائفياً ومناطقياً تفجر على شكل صراع دموي في أغسطس 67م، بما أحدثه من شرخ في وحدة نسيج المجتمع اليمني مازلنا نجتر مآسيه حتى اليوم.

استقلال الجنوب اليمني وقيام دولتين شطريتين
تمكن البريطانيون في عام 1839م من احتلال عدن، ثم بدأوا يتوسعون في مناطق جنوب اليمن عن طريق عقد المعاهدات مع السلطنات والمشيخات المحلية، وفي عام 1914م عملوا على توقيع اتفاقية الحدود التي فصلت مناطق سيطرتهم عن مناطق السيطرة العثمانية في شمال اليمن.

ورغم القمع والاضطهاد الذي مارسه الاستعمار البريطاني ضد أبناء اليمن إلا أنه ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 45م بدأت بوادر المجتمع المدني بالتشكل في مدينة عدن بشكل واضح، وكان لها السبق في ذلك على مستوى الجزيرة العربية، فنشأت العديد من الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والجمعيات الأهلية، وقد انعكس ذلك على الحياة الإعلامية حيث نشأت العديد من الصحف الحزبية والأهلية، وإن كان ذلك النشاط المدني قد اقتصر في معظم الأحيان على مستعمرة عدن ولم يمتد إلى بقية مناطق الجنوب اليمني إلا بشكل جزئي ومحدود.

وأمام المد التحرري الموجه ضد قوى الاستعمار الأوروبي في القارتين الأسيوية والأفريقية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية فقد عمل البريطانيون على توحيد إمارات وسلطنات الجنوب اليمني في اتحاد إمارات الجنوب العربي عام 59م، لكن ذلك الاتحاد ظل أداة في يد المستعمر البريطاني، الأمر الذي عجل باشتعال ثورة الكفاح المسلح ضد الوجود الاستعماري، حيث انطلقت الثورة في أكتوبر 63م، بمساندة من النظام الجمهوري الوليد في شمال الوطن.

تمكن الثوار من فرض إرادتهم على المستعمر البريطاني الذي حمل عصاه ورحل في نوفمبر 67م مسلماً السلطة للجبهة القومية ذات التوجه اليساري، ولكون الاستقلال قد تم بُعيد أسابيع من انقلاب 5نوفمبر الذي أطاح بالسلال وأوصل القوي التقليدية إلى السلطة في الشمال، فقد جعل ذلك الجبهة القومية تعلن الجنوب دولة مستقلة إلى حين توفير الشروط الملائمة لإعادة تحقيق الوحدة اليمنية، بينما كانت القوى الحاكمة في الشمال ترى أن الجنوب فرع سلخه الاستعمار عن أصله ومن الطبيعي أن يعود بعد الاستقلال إلى الوطن الأم.

ظلت الأمور تتصاعد بين الشطرين خصوصاً بعد التصفيات التي تعرضت لها القوى اليسارية والقومية في عام 68م في شمال الوطن، وكذلك الحركة الانقلابية التي نفذتها القوى اليسارية في الجبهة القومية الحاكمة في الجنوب ضد ما أسمتها بقوى اليمين الانتهازي داخل الجبهة عام 69م، التي أطاحت بالرئيس قحطان الشعبي ونصبت سالم ربيع علي بديلاً عنه. وقد أدى كل ذلك في نهاية المطاف إلى اشتعال الحرب الأولى بين شطري اليمن عام 72م.

يحسب لحكومات الجبهة القومية (الحزب الاشتراكي فيما بعد) التي تعاقبت على حكم الشطر الجنوبي من اليمن قدرتها على فرض سلطة الدولة على كل أراضيها ، وزرعها لهيبة القانون لدى كل مواطنيها. وكذلك امتلاكها لنظام محاسبي متقدم يمنع الاختلاسات ويقلل من الفساد ونهب المال العام. ورغم هذه الإيجابيات إلا أنه يؤخذ على نظام الحكم في الجنوب فرضه للماركسية كفكر وحيد للحكم، وتنكيله بخصومه المعارضين له، بل وتوالى دورات الانقلابات الدموية بين الرفاق داخل الحزب الاشتراكي نفسه، ابتداء بانقلاب 69م الذي أطاح بقحطان الشعبي، مروراً بانقلاب 78م الذي أطاح بسالم ربيع علي، ثم انقلاب 80م الذي أطاح بعبد الفتاح اسماعيل، وانتهاءً بانقلاب 86م الذي أطاح بعلى ناصر محمد وأتى بعلي سالم البيض زعيماً للحزب وقائداً أول للدولة، وهو الذي وقع اتفاقية الوحدة في 90م مع الرئيس الشمالي علي عبدالله صالح.

أما أوضاع الدولة في الشطر الشمالي فعلى الرغم من أن المصالحة مع الملكيين عام70م قد أنهت الصراع الذي أمتد منذ ثورة سبتمبر62م، إلا أن ازدياد نفوذ القبائل وتعدد مراكز القوى في السلطة قد أدى إلى ضعف الدولة وانتشار حالة من الفساد المالي والإداري، أدت في نهاية المطاف إلى استقالة القاضي الإرياني مع رموز دولته وتسليم السلطة لمجلس قيادة برئاسة المقدم إبراهيم الحمدي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة في يونيو 74م.

أستطاع الحمدي الذي عُرف بنزاهته ووطنيته أن يقود حركة لتصحيح الأوضاع ومكافحة الفساد المالي والإداري، والشروع في بناء دولة حديثة تعتمد على المؤسسية، ويكون ولاء موظفيها ومواطنيها لحكومتهم مقدم على ولائهم لقبائلهم ومشائخها، مع تحقيق العدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية، وفرض هيبة النظام والقانون في كل ربوع الدولة.

أدت الإصلاحات التي نفذها الحمدي إلى تأليب القوى المتضررة منها ضده، والتقت مصالحها مع مصالح بعض دول الجوار التي لم تكن ترغب بوجود دولة قوية على حدودها الجنوبية، حيث تمت تصفية الرئيس الحمدي في أكتوبر 77م، على مائدة غداء في منزل رئيس هيئة أركان جيشه المقدم أحمد الغشمي، وعلى يد الرائد على عبدالله صالح قائد لواء تعز - حسب الإفادة التي أدلى بها الشقيق الأكبر للرئيس الحمدي في أحد تصريحاته - قبيل يوم من سفره إلى عدن للمشاركة في احتفالات ثورة أكتوبر والتفاوض مع الرئيس سالم ربيع بخصوص إعادة تحقيق الوحدة اليمنية.

خلف الغشمي الحمدي على كرسي الرئاسة في شمال اليمن لمدة بضعة أشهر قبل أن يتم تصفيته بحقيبة ملغومة حملها مبعوث قادم من عدن، فطرحت السعودية اسم على عبدالله صالح رئيسا لشمال اليمن وفرضته على مراكز القوى العميلة لها، فبدأ عهده بشراء الولاءات، وجعل همه الأول القضاء على كل انجازات عهد الحمدي، معيداً الأوضاع في اليمن الشمالي إلى المربع الوسط بين الدولة واللادولة الذي تحبذه السعودية، والذي من أجله ربما فضلت على صالح دون غيره ودعمته للوصول إلى كرسي الرئاسة.

الوحدة اليمنية بين الطموح والانتكاسة
على الرغم من قيام دولتين في اليمن إلا أن الوحدة اليمنية ظلت المطلب الملح للشعب اليمني، لذلك فالدولتين الشطريتين لم تتبادلا السفراء، وعُين بدلاً عن ذلك وزيراً لشؤون الوحدة في كلا الحكومتين. وبعد الصدام الحدودي المسلح في 72م نشطت اللقاءات بين قيادتي الشطرين في خارج اليمن وداخلها، وكانت اللقاءات الداخلية تتم في مدن شمالية، لكون الوحدة في تلك الفترة كانت مطلباً جنوبياً أكثر منه شمالياً، ويعود ذلك إلى خضوع الحكومات الشمالية للهيمنة السعودية التي اعتبرت إعادة تحقيق الوحدة اليمنية خطاً أحمر، لذلك فقد دفع الرئيس الحمدي حياته ثمناً لشروعه في خوض مباحثات وحدوية جادة مع سالم ربيع علي وإصراره على القيام بزيارة عدن قبيل مقتله بيوم.

ما لبث شطرا اليمن أن دخلا في صدام حدودي مسلح آخر في 79م كانت الغلبة فيه للجنوب هذه المرة، ومع ذلك فبمجرد التقاء قيادة الشطرين في الكويت وافق الجنوبيين على إنها القتال، بل وأبدى الرئيس الجنوبي عبد الفتاح إسماعيل استعداده لتشكيل حكومة وحدوية مشتركة يكون الوزراء الجنوبيين فيها مجرد نواب للوزراء الشماليين، وتذكر بعض التحليلات أن ذلك قد مثل السبب الرئيسي للإطاحة به في العام المقبل.
ومع ذلك فإن المفاوضات الوحدوية قد استمرت وأفضت إلى وقف الدعم الجنوبي للجبهة الوطنية الديموقراطية التي كانت تخوض صراعاً مسلحاً ضد الحكومة الشمالية، وتم تشكيل لجنة مشتركة قامت بصياغة دستور تقوم عليه دولة الوحدة، وهو الدستور الذي تم اعتماده رسمياً من قيادتي الشطرين في 89م ليكون أساساً لوحدة اندماجية أصر عليها الجنوبيون وعلى رأسهم الرئيس علي سالم البيض، مقابل العرض الذي تقدم به الرئيس الشمالي علي عبدالله صالح والمتمثل بتوحيد الخارجية والدفاع كخطوة أولى تلحقها خطوات أخرى.

تم إعلان دولة الوحدة اليمنية من مدينة عدن في مايو 90م، وقَبِل الرئيس الجنوبي التنازل عن منصب رئيس الدولة الوليدة للطرف الشمالي، وكذلك جعل العاصمة الشمالية عاصمة للوحدة، مشترطين أن يتم اعتماد الأفضل من تجربتي الشطرين كمنهاج لدولة الوحدة. وقد اقترنت دولة الوحدة اليمنية باعتماد التعددية السياسة، حيث برزت العديد من الأحزاب من السر إلى العلن، وتشكلت أحزاب جديدة أخرى أقل أهمية، وترافق ذلك مع مزيد من الحريات الصحفية، وكذلك تشكل العديد من منظمات المجتمع المدني وفي مقدمتها المنظمات المتخصصة في الدفاع عن الحريات العامة وحقوق الإنسان.

اتضح فيما بعد بأن الوحدة لم تكن للرئيس علي عبدالله صالح إلا خطوة تكتيكية لتوسيع رقعة حكمة، حيث ظل يماطل في اتخاذ أي إجراءات إصلاحية حقيقية خصوصاً في الجانب المالي، ولذلك كان حريصاً أن يجمع لحزبه بين منصبي وزير المالية ومحافظ البنك المركزي في الحكومة الأولى لدولة الوحدة، وكرس جهوده لتعميم نموذج الإدارة المعتمد في الشمال – رغم ضعفه - على دولة الوحدة، الأمر الذي أفقد الثقة بين الجانبين وأدى إلي تفجر الصراع المسلح بينهما في صيف 94م، خصوصاً بعد نتائج الانتخابات النيابية التي أجريت في أبريل 93م، ونظر إليها الحزب الاشتراكي بصفتها مقدمة لإقصائه بعد أن أتى في المرتبة الثالثة تالياً لحزب المؤتمر الشعبي وتجمع الإصلاح.
كان من نتائج حرب 94م إقصاء الحزب الاشتراكي عن السلطة باعتباره الطرف المهزوم، تلاه إقصاء تجمع الإصلاح بعد الانتخابات البرلمانية الثانية 97م، مع استمرار الإقصاء الممنهج لأبناء الجنوب من المناصب والوظائف العسكرية والمدنية، حيث حوربوا في لقمة عيشهم، وأصبحوا أعضاء ضمن ما صاروا يطلقون عليه ساخرين "حزب خليك في البيت". وكذلك تم توزيع أراضيهم - التي سبق للدولة الاشتراكية في الجنوب تأميمها - على النافذين المقربين من الرئيس صالح، الأمر الذي دفع أبناء الجنوب لتنظيم احتجاجات سلمية، بدأت بالعسكريين الذين أجبروا على التقاعد، وما لبثت أن امتدت لتشمل كل قطاعات المجتمع الجنوبي فيما بات يعرف منذ 2007م بالحراك الجنوبي السلمي.

أدى انهيار حلم أبناء الجنوب في تأسيس الدولة الديمقراطية التي دخلوا الوحدة على أساسها، ورؤيتهم للفوضى والارتجالية تحل بديلاً للنظام والقانون، وكذلك حلول التمييز والإقصاء بديلاً للعدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية، إلى جانب المماطلة التي واجهت بها السلطات مطالب الحراك الجنوبي، أدى كل ذلك إلى تصاعد وتيرة الحراك الجنوبي من حقوق مطلبية إلى حركة سياسية تطالب بإعادة تصحيح مسار دولة الوحدة، حتى وصلت في بعض الطروحات إلى المطالبة باستعادة الدولة الجنوبية وفك الارتباط الوحدوي مع الشمال، كردة فعل على المصادرة التي قام بها نظام علي عبدالله صالح للوحدة المتفق عليها في 90م، الأمر الذي حدا ببعض الجنوبيين لأن ينكروا حتى هويتهم اليمنية.

الثورة الشعبية وانتعاش حلم بناء الدولة العصرية
رافق الحراك الجنوبي السلمي تدهور مريع للأوضاع المعيشية للمواطن اليمني في عموم المحافظات، مقابل هيمنة قلة قليلة من النافذين على مقدرات البلد واحتكار سلطاتها، وقد دفع كل ذلك باتجاه تفجير ثورة فبراير الشعبية العارمة التي اشتعلت في العام 2011م، ومثلت بالمبادئ التي قامت من أجلها خطوة في الاتجاه الصحيح، على طريق الحل العادل للقضية الجنوبية وغيرها من القضايا الأخرى التي صار الوطن اليمني يعاني منها.

ولم يعد بخافٍ أن شعب اليمن من أقصاه إلى أقصاه صار يؤمل على ثورته الشعبية بأن تحقق له حلمه في بناء دولته العصرية التي ناضل من أجلها ولم تتحقق حتى يومنا هذا، وذلك بسبب العديد من العوائق التي وقفت في طريق تحقيقها ومنعتها من أن تصبح واقعاً ملموساً في حياة اليمنيين، ما يحتم على سلطات الدولة اليمنية المنبثقة عن الثورة الشعبية أن تجعل نصب أعينها العمل بأقصى طاقتها لتحقيق ذلك الحلم، لأنه بات واضحاً بأن الشعب اليمني لن يقبل منها بأقل من ذلك.