الاربعاء ، ٢٤ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٢:٢٣ صباحاً

النظام الفيدرالي وواقع الدولة اليمنية

د. عبدالله أبو الغيث
السبت ، ٢٥ مايو ٢٠١٣ الساعة ٠٣:٤٠ مساءً
لن نكون مبالغين إذا ما قلنا بأن قضية شكل الدولة اليمنية ستكون بمثابة القضية الرئيسية التي ستدور فيها أكثر الطروحات لجميع الأطراف المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني الدائر الآن في العاصمة صنعاء، وبناء على الشكل الذي سيتوافق عليه المتحاورون ستنبني حلول القضايا الأخرى التي سيبحثها المؤتمر؛ بما في ذلك القضية الجنوبية وقضية صعدة.
وأصبح واضحاً بأن معظم الطروحات في أروقة مؤتمر الحوار صارت تتمحور حتى الآن حول الحديث عن دولة لامركزية بحكم محلي كامل الصلاحيات، أو نظام فيدرالي في دولة متعددة الأقاليم. ويبدو أن الحلول في نهاية المطاف لن تخرج عن ذلك. وسنحاول هنا تسليط الضوء على بعض جوانب الفيدرالية التي لم نتناولها من قبل، مع مقارنتها باللامركزية، ليتسنى لنا تحديد الشكل الملائم الذي يتوافق مع أوضاع الدولة اليمنية؛ بظروفها الدينية والجغرافية والسكانية والثقافية والاجتماعية.

بين اللامركزية والفيدرالية
يقتصر النظام اللامركزي على إعطاء اللامركزية الإدارية للوحدات الإقليمية للدولة، وهو ما يعرف بنظام الحكم المحلي، وعندما نقول الحكم المحلي فالمقصود الحكم المحلي كامل الصلاحيات. أما النظام الفيدرالي فهو يمتد ليشمل اللامركزية السياسية إلى جانب اللامركزية الإدارية.
وعادة ما تنال اللامركزية السياسية في الدولة الفيدرالية من وحدة سيادة الدولة، بينما اللامركزية الإدارية لا تمس هذه الوحدة؛ فالوحدات الإدارية في الدولة الفيدرالية تتمتع بقدر من السيادة، لأنها تشارك السلطات المركزية في ممارسة السيادة الداخلية، ومن ثم فإن اختصاص تلك الوحدات يحددها الدستور الاتحادي وليس مجرد قانون عادي كما هو الحال في اللامركزية الإدارية، كما أنه لا يجوز تعديل الدستور والانتقاص من اختصاصات الأقاليم بدون موافقتها، بينما يتم ذلك في النظام اللامركزي بدون الحاجة لموافقة الأقاليم المحلية.

وفي الدولة الفيدرالية تقتصر الرقابة التي تمارسها السلطة الاتحادية على مدى احترام الأقاليم للدستور الاتحادي، وهذه الرقابة تمارسها السلطة القضائية الاتحادية وليس السلطة التنفيذية، وبناءً على ذلك ليس من حق الحكومة الاتحادية الرقابة والإشراف على أسلوب ممارسة الأقاليم لاختصاصاتها المحددة في الدستور الاتحادي، أما في اللامركزية الإدارية فإن الوحدات الإدارية تخضع لإشراف ورقابة الحكومة المركزية بصورة كاملة.

ويمكن قياس درجة اللامركزية في أي نظام بمدى الدور الذي تلعبه الوحدات الإدارية في صنع القرار على المستوى المركزي (الاتحادي)، وقد تمنح بعض الأنظمة اللامركزية غير الفدرالية سلطات أوسع لوحداتها الإقليمية لكنها تحتفظ لنفسها بالإشراف المركزي على تنفيذ تلك الصلاحيات كما يحدث في اليابان، بينما تمنح بعض الفيدراليات صلاحيات أقل لوحداتها الإدارية لكنها تعطيها حرية أكبر في ممارسة تلك الصلاحيات.

تجدر الإشارة أن اللامركزية تتفاوت بين الدول الفيدرالية من مجال إلى آخر، فكندا مثلاً تعد أقل لامركزية من الولايات المتحدة فيما يتعلق بالنظام المصرفي والبث الإذاعي، لكنها تعد أكثر لامركزية منها في كثير من المجالات الأخرى كحق الأقاليم في الاعتراض على الاتفاقيات الدولية التي تتعارض مع قوانينها كما سبق القول، وبشكل عام فكلما ازدادت درجة التجانس في مجتمع الدولة الفيدرالية كلما ازدادت السلطات الممنوحة لحكومتها الاتحادية، وكلما زادت درجة التنوع كلما ازدادت السلطات الممنوحة للوحدات الإقليمية.

وبشكل عام فإن الحكومة الاتحادية في النظام الفيدرالي تختص بالعلاقات الخارجية، والتجارة الدولية، والجمارك، والعملة، والجيش، والجنسية، والأمن الوطني، والتخطيط الاستراتيجي. بينما توزع بقية المهام لتعطى لسلطات الحكومات الإقليمية، أو يتم تنفيذها بصورة مشتركة بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم.

مزايا الدولة الفيدرالية وعيوبها
من الطبيعي القول بأن هناك مزايا للدولة الفيدرالية كما أن لها عيوب، وفيما يخص مزايا الفيدرالية فهي تمنح الوحدات الإدارية للدولة سلطات وصلاحيات كبيرة، تراعي الفروق الذاتية الاجتماعية والثقافية والقومية والعرقية والدينية وغيرها، ومن ثم فإن الدولة الفيدرالية تكون هي الحل الأمثل لمواجهة واقع التنوع القائم في إطار أي دولة.
وهي كذلك تقدم الحلول المناسبة لاتساع رقعة الدولة وترامي أطرافها، كما أنها تسمح بتقديم نماذج سياسية متعددة؛ حيث تتضح مزايا وعيوب الأنظمة المختلفة المطبقة في وحداتها الإدارية، وتتمكن كل وحدة الاستفادة من النظم التي ثبت نجاحها وفعاليتها في التطبيق في الوحدات الأخرى.

وبالنسبة لعيوب الفيدرالية فهي قد تؤدي إلى تفتيت وحدة الدولة، عندما يتم منح الأقاليم صلاحيات كبيرة تضعف من سيطرة الحكومة الاتحادية على كثير من شؤون الدولة، وتحول بينها وبين قدرتها على الموازنة بين مصالح الأقاليم ومصالح الدولة العليا، وكذلك ظهور المنازعات بسبب ازدواجية الاختصاصات بين السلطات الاتحادية والإقليمية.

إلى جانب تكبِد الدولة الفيدرالية لنفقات ضخمة بسبب تعدد المؤسسات في الدولة وازدواجيتها بين السلطة الاتحادية وسلطات الأقاليم، وهو ما لا تستطيع تحمله الدول الفقيرة ذات الاقتصاديات الضعيفة، يضاف إلى ذلك أن الفيدرالية تهدد الدول التي لا تستطيع فرض سيادتها على مختلف أراضيها، الأمر الذي قد يحوّل أقاليم الدولة الفيدرالية إلى دولاً مستقلة بعد مرحلة من تحولها من النظام البسيط إلى النظام المركب.
ولا يخفى بأنه لا يوجد نسخة واحدة للفيدرالية، ولذلك فلن نجد نظامين فيدراليين يتطابقان في العالم، ذلك أن كل دولة اتحادية تحرص على تطبيق الفيدرالية بما يناسب خصوصيات مجتمعها, ولذلك فإنه حتى في حال ما إذا توافق المتحاورون في مؤتمر الحوار اليمني على تطبيق النظام الفيدرالي في اليمن فإنه سيكون هناك فرق في أن نجعله وسيلة لرأب التصدعات التي تعاني منها اليمن، ودافعاً لنا لاستعادة التماسك والإخاء، أو أن نجعل منه أداة لتكريس مزيد ما التمزق والشتات.. ولنا في الدول المشابهة لأوضاعنا أسوة وقدوة.

توزيع الموارد في الدول الفيدرالية
تحدد معظم الأنظمة الفيدرالية في دساتيرها سلطات جمع الإيرادات الخاصة بمستويات الحكم الاتحادية والإقليمية. وفيما يخص رسوم الجمارك فإنها تخضع للسلطة الفيدرالية من أجل ضمان تحقيق الوحدة الاقتصادية.

وبالنسبة للضرائب؛ فضريبة دخل الشركات تكون اتحادية لأن عمل الشركات عادة ما يتوسع خارج إطار الوحدة الإدارية التي يقع فيها مقرها الرئيسي، أما ضريبة دخل الأفراد فهي تكون أكثر ارتباطاً بمكان الإقامة ولذلك فغالباً ما تكون ضمن المجالات المشتركة بين الحكومة الفيدرالية والحكومات الإقليمية. وينطبق نفس الأمر على ضريبة المبيعات في معظم الأنظمة الفيدرالية. بينما تكون ضريبة العقارات من اختصاص الأقاليم أو الوحدات الأصغر المتفرعة عنها في الفدراليات ذات الثلاثة المستويات.

وبصورة عامة فإن معظم مصادر الإيرادات الرئيسية تكون من ضمن صلاحيات الحكومة الفيدرالية، لأن ذلك يساعدها على إعادة توزيع الموارد المالية بين أقاليمها المختلفة، وتتفاوت الفيدراليات العالمية في النسبة المئوية التي تعطيها من عائدات الموارد الوطنية التي تخصصها لأقاليمها، حيث تقل تلك النسبة كثيراً في بعض الدول مثل فنزويلا، بينما ترتفع في دول أخرى مثل ألمانيا.

أما الموارد الطبيعية وكيفية توزيعها فيختلف من فيدرالية لأخرى، حيث تعد الثروات البترولية والغازية مثلاً في كندا من اختصاص المقاطعات الإقليمية، بينما في الهند تدخل ضمن مهام الحكومة الاتحادية، أما الثروات في قاع البحار فعادة ما تدخل ضمن اختصاصات الحكومات الاتحادية.

وفيما يخص مجالات الإنفاق يمكن القول بشكل عام بأن سلطات الانفاق تتوزع بين الحكومة الفيدرالية وحكومات الأقاليم بما يتطابق مع المسؤوليات التشريعية والإدارية الممنوحة لكل منهما، ومع ذلك يظل الإنفاق الفيدرالي في مجالات خاضعة لسلطة حكومات الأقاليم مسألة خلافية سياسياً، ويتبدى ذلك بشكل واضح في دولة كندا التي كسبت فيها الحكومة الاتحادية معظم القضايا التي رفعتها ضدها الحكومات الإقليمية بهذا الشأن.

ويعد اتاحة الاقتراض العام للأقاليم مؤشراً آخر على درجة الاستقلال المالي في الدول الفيدرالية، وتختلف الاتحادات الفيدرالية اختلافاً كبيراً فيما يتعلق بقدرة الأقاليم على الاقتراض، ففي فدراليات مثل النمسا والهند وماليزيا يقتصر الاقتراض الأجنبي على الحكومة الاتحادية، بينما تمنح كندا حكوماتها الإقليمية حق الاقتراض المحلي والدولي دون عوائق، وتلجأ دول أخرى مثل أستراليا لإنشاء مجلس مشترك بين حكومتها الاتحادية وحكوماتها الإقليمية تكون سلطاته في مجال الاقتراض ملزمة للمستويات الحكومية المختلفة.

خطورة فيدرالية الإقليمين والثلاثة
يتحدث رونالد واتس في كتابه (الأنظمة الفيدرالية) عن مثالب الفيدراليات التي تنشأ بين إقليمين أو ثلاثة، حيث يذكر بأن الفيدرالية الثنائية تعد تجربة غير مشجعة، ويعود ذلك إلى إصرار الاتحادات المكونة من وحدتين على طلب التساوي فيما بينها في كافة الأمور، الأمر الذي يصيب الاتحاد بالنزوع نحو الجمود والتوقف التام.

فضلاً على أن انخفاض الكثافة السكانية في إحدى الوحدتين عن الأخرى يدفع الوحدة الأقل للإصرار على مساواتها في التأثير على السياسات الفيدرالية، في حين ينشأ لدى الوحدة الأكثر سكاناً شعور بالشكوى من القيود المفروضة عليها لاستيعاب الوحدة الأصغر، الأمر الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى تفكك الفيدرالية الثنائية، كما حدث في الدولة الباكستانية الأولى وفي دولة تشيكوسلوفاكيا، ويمكن أن نضيف إلى أمثلة واتس ما حدث بين جنوب السودان وشماله.

وكذلك الاتحادات الفيدرالية المكونة من ثلاث أقاليم يكون لها نفس المشاكل التي تعترض سبيل الاتحادات ثنائية الأقاليم حسبما يذكر واتس، خاصة إذا كانت إحدى أقاليمها الثلاثة تقطنها الغالبية العظمى من سكان الاتحاد، مثلما حدث مع الاتحاد الثلاثي الفيدرالي النيجيري خلال خمسينات وأوائل ستينات القرن العشرين، والذي انحل بوقوع حرب أهلية، وهو ما دفع لتقسيم نيجيريا بعد ذلك – تدريجياً – إلى عدد أكبر من الوحدات الإقليمية، وصلت الآن إلى (36) وحدة.

وقد يجعل وجود وحدات ثلاث فقط كمكون لاتحاد فيدرالي واحدة من تلك الوحدات تشعر بأن الوحدتين الأخريتين قد تحالفتا ضدها، الأمر الذي يعرض الاتحاد للانهيار، ويضرب واتس أمثلة على فشل الاتحادات ثلاثية الوحدات بتفكك الاتحاد الفيدرالي لروديسيا ونايسلاند (1953-1963م) الذي تفككت أقاليمه الثلاثة إلى ثلاث دول هي: زامبيا (روديسيا الشمالية) وزمبابوي (روديسيا الجنوبية) وملاوي (نايسلاند)، وكذلك الاشكاليات التي ثارت عند محاولة إقامة اتحاد فيدرالي بين دول شرق أفريقيا الثلاث: كينيا وأوغندا وتنجانيقا (تنزانيا) في مطلع ستينات القرن العشرين.

وذلك يجعلنا نحذر من قيام فيدرالية يمنية بين إقليمين أو حتى ثلاثة حتى لا تكون نهايتها الانفصال، ونقول بأن الشكل الآمن والقابل للحياة إنما يتمثل بتقسيم الدولة اليمنية إلى أقاليم متعددة متجانسة وقابلة للحياة؛ سواء سرنا في إطار الدولة اللامركزية أو الفيدرالية. وذلك سيجعل الحديث عن عدد تلك الأقاليم/الولايات وسيلة وليس غاية لذاته. ومعروف أن الفيدرالية إنما تقوم على أساس تكامل أقاليم الدولة فيما بينها، وليس على أساس أن يستغني كل إقليم بنفسه عن الأقاليم الأخرى، فاستغناء الأقاليم عن بعضها إنما يؤسس لدول مستقلة في قادم الأيام.

شكل الدولة الملائم لليمن
ترتبط الفيدرالية في غالب الأحيان برغبة مجموعة من الدول في الاتحاد في إطار دولة واحدة، أما تطبيقها في إطار دول بسيطة يتم تحويلها إلى دول مركبة فعادة ما يقترن ذلك بوجود حالة من التعدد الديني أو العرقي أو اللغوي... ، أو بسعة الرقعة الجغرافية لبعض الدول، وهو ما لا يوجد في اليمن ذات المجتمع المتجانس برقعتها الجغرافية المحدودة.

وإذا أضفنا لذلك الكلفة العالية للنظام الفيدرالي التي لا تتناسب مع دولة فقيرة مثل اليمن، وكذلك هشاشة الحكومة المركزية اليمنية وعجزها عن فرض سيطرتها على مختلف ربوع أراضي الدولة، وهو ما قد يجعل من الفيدرالية جسر عبور لتفتيت اليمن لدويلات متعددة ومتناحرة.. كل ذلك يجعلنا نقول بأن الشكل الواقعي والمناسب للدولة اليمنية إنما يتمثل بقيام دولة لامركزية في إطار حكم محلي كامل الصلاحيات.

وتثبت حقائق التاريخ والسياسة بأن مشاكلنا في الوطن اليمني لم تنتج بدرجة رئيسية بسبب شكل الدولة أو نظام حكمها أو تقسيمها الإداري أو وحدة كيانها، لكنها نتجت بسبب الفساد والاستبداد، وغياب العدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية، ورفض الشراكة الوطنية في السلطة والثروة، وذلك يجعلنا نقول بأن نجاح الدولة اليمنية القادمة إنما يرتبط بمدى قدرتنا على تقديم حلول واقعية وصادقة لتلك المشاكل، أما أشكال الدول وأنظمة حكمها فتظل في نهاية المطاف وسائل وليس غايات.

وفي الأخير فإن صدق نوايانا، واستعدادنا للتعايش مع بعضنا، واعتبارنا المصلحة العليا للوطن اليمني خط أحمر يعلو فوق كل مصالحنا الضيقة، ومشاريعنا الخاصة، وطموحاتنا الآنية، ومطامعنا الأنانية، هو من سيرسم لنا ملامح نافذة خروج اليمن من النفق الذي صارت تتردى فيه، بحيث تضعنا على بداية طريق صحيح وآمن لبناء دولة يمنية مدنية حديثة وموحدة، أما إذا لم يحدث ذلك فنحن سنكتشف بعد حين بأننا قد عدنا إلى داخل نفس النفق - ولكن من منفذ جديد - وإلى زاوية أكثر ظلاماً من التي كنا فيا.