الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ١٢:٣٤ صباحاً

الإسلام ... وظاهرة الجمال الشامل

إبراهيم القيسي
الاربعاء ، ٠٥ يونيو ٢٠١٣ الساعة ١١:٤٠ صباحاً
الإسلام دين الجمال والأناقة وروض البهاء والسناء تنتظم فيه عقود الجمال الخالد وتطرز عقوده الجميلة أصالة المبدأ ونضارة المشهد فالسماء قبة زرقاء والأرض كرة تغرق في بحار المياه نجوم السماء بمجراتها نسيج بديع والسحب بأمطارها جمال فريد والجبال بأوديتها فن خالد إنه الإيقاع المترنم بروعة الخلق والدهشة المغمورة بديمومة الشمول والتنوع الدال على عظمة الخالق إنها الرحلة الممتعة في امتداد المكان والسفر المذهل في تبدلات الزمان والإعجاب الخالد بنضارة الألوان نظرة واحدة في الكون المحيط تشفي السقيم وتذهل العاقل وتهز الوجدان فكل صفحة في كتاب الكون قصيدة رائعة وكل إشراقة فجر لوحة بديعة وكل حمرة غروب لحن نادر ما أجل تلك التقلبات الزمانية من ليل إلى نهار نعيش خضرة الفجر ولجين الظهر ونضار العصر ومرجان الغروب ومسك العشاء نمضي مع عقود الزمان بأيامه وشهوره وسنينه وعقوده وننطلق في أفق المكان نسبح بأفكارنا في بحار العظمة ونجدف بأرواحنا فوق قوارب المشاهد الكونية التي نغرق في جمالها السرمدي وننحني في قبلتها سجودا للخالق المبدع العظيم .

إن هذا الكون تربطه وحدة متناغمة ابتداء من الذرة إلى المجرة فالكل مكون من نسيج تؤلفه وحدات مكونة من خيوط محبوكة أبدعتها يد الخالق العظيم فكم هو التشابه بين الخلية المكونة لنسيج الأجساد والذرة المكونة لنسيج المجرات فقد توصل العلماء في أول مرة في بداية القرن الواحد والعشرين إلى رؤية النسيج الكوني بواسطة أجهزة السوبر كمبيوتر على شبكة ثلاثية الأبعاد لجزء كبير من الكون المرئي ويظهر فيه بدون مواربة ذلك النسيج الجمالي الذي يربط بين جزئيات الكون في صورة تدل على عظمة الخالق ورؤية واضحة عن تجليات الجمال الشمولي الذي يعطي دلالة مؤكدة عن الإتقان والتناسق بين أجزاء هذا الكون من الذرة إلى المجرة وصدق الله العظيم القائل :"والسماء ذات الحبك " الذاريات الآية (7) إنه القسم بعظمة هذا النسيج المكون من خيوط الإبداع الإلهي في صورته الرائعة المحاطة بهالة الفن والروعة والجمال .

ومن شمولية الفن الجمالي الإسلامي إحاطته بخلق الإنسان شكلا ومعنى وخلقا ودينا فقد خلق الله الإنسان في صورة جميلة متناسقة متقنة وضع كل عضو فيها في مكانه المحدد الأمر الذي يعكس جلال الخالق وعظمة بديع صنعه فليس هناك ما يخل بهذه الشخصية الفريدة من عيوب أو نقائص قال تعالى في الآية (4) من سورة التين " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " وقد زاد تلك الصورة الجميلة بهاء وجمالا ذلك العقل المدرك الذي بواسطته استطاع الإنسان أن يتباهى بتفكيره واختراعه ويتسامى بابتكاره للوسائل الجمالية المريحة في المسكن والمأكل والراحلة وقد وصف الله تعالى المركب بالجمال في سورة النحل الآية (6) "ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون " فإذا كان المركب قديما يمثله الخيل والبغال والحمير فقد استحدث اليوم ما هو أفره وأجمل وأزين وأسرع وقد أشارت الآية (8) من سورة النحل إلى ذلك بوضوح قال تعالى :" والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق مالا تعلمون " فتلك الزينة في المركب وذلك الجمال في حال الغدو والرواح هو التعبير الفني والجمالي الذي جسده الإسلام وهذا هو الدليل على شمولية الفن الإسلامي الخالد .

إن الإسلام دعا الإنسان إلى الجمال والأناقة والتفنن بمبادئ التجمل والنظافة وخاصة عند التوجه إلى بيت من بيوت الله حتى يظهر المسلم متميزا عن غيره بجماله وأناقة شكله أمره بالوضوء والتطهر عند كل صلاة واستخدام السواك ليتناغم المسلم مع نظافة أعضائه وثيابه وفمه الذاكر لله لأنه سيلتقي في المسجد بإخوانه المسلمين وسيلتقي بملائكة ربه الذين يتأذون مما يتأذى منه الإنسان ولذا أمر الله تعالى باتخاذ الزينة في المسجد قال تعالى :" يبني ءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد "الأعراف الآية (31) وهذه الزينة خاصة للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة قال تعالى :" قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبت من الرزق قل هي للذين ءامنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيمة ..." الأعراف الآية (32) ويرسم الرسول صلى الله عليه وسلم صورة بديعة للمسلم المتوضئ يوم القيامة بقوله :" فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء " رواه مسلم وهذه اللوحة البديعة التي يرسمها الحديث للمسلم المحافظ على الوضوء تعطي تلك الصورة الجميلة التي توحي بروعة التميز وبديع الإكرام ذلك لأنه سيقدم على الخالق سبحانه الموصوف بالجمال والكمال غير المحدود " قال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة فقال : ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن الله جميل يحب الجمال " رواه مسلم وتلك دلالة واضحة بأهمية النظافة والتجمل لأنها مرتبطة بالدين والعبادة والاعتقاد فليس هناك فصل بين الإنسان ونظافته والإنسان وعبادته واعتقاده فالإسلام يرى النظافة شرطا للعبادة والاعتقاد وسوى الإسلام بين طهارة الباطن والظاهر ولابد أن تتناغم هذه الثنائية في صورة حقيقية لا يشوبها لبس ولازيغ أو ضلال " الطهور شطر الإيمان ... " رواه مسلم وفي البخاري " الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان " فالجمال في الإسلام قد تعدى الشكل الظاهري إلى جوهر الإنسان بل ركز الإسلام على جمال الباطن لأنه السبيل إلى صلاح الفرد والجماعة وطريق إلى السلوك الصحيح للنجاح في العمل الصالح الذي يرقى بالإنسان إلى تسنم العروج إلى الدرجات العليا في الآخرة وعمران الدنيا بالحق الذي يتولد من طهارة الباطن ليسود العدل والحرية في عالم الحب والسلام .

وحينما نقف قليلا مع أركان الإسلام الخمسة لنشهد عن كثب ذلك الجمال الرائع المتولد من تلك المشاهد الجميلة التي تعكس جلال اللوحات الكونية في أبهى منظر رسم على قدر محتوم يتراقص مع أضواء السناء والبهاء الروحاني إنها الشهادتين التي تدخل المسلم على عالم الطهر والنقاء وتشرف به على عظمة الأنوار المنبعثة من جلال المشاهد المتكررة في بيوت الله والتي تجسد أداء الشعائر التعبدية في صورة جماعية في صفوف ينتظمها خيط الخشوع والتذلل بين يدي الرحمن وننتقل منها إلى مشاهد روابط الأخوة والصلة الروحية التي تتولد من التكافل الاجتماعي المستضيء بمصابيح الزكاة والصدقة التي تعمل على ربط الجانب الاجتماعي بحرارة الحب المتولد من المعروف المغمور بطراوة الرحمة وهدوء السكينة ووشائج الإيمان وهناك على ضفاف الروح يتجلى أعظم مشهد عالمي يجمع بين جمال الظاهر والباطل يرسم على لوحة مكانية في فترة زمانية تقدر بثلاثين يوما في شهر يمثل جوهرة العقد في الشهور العربية تنتظمه مشاهد إيمانية مغمورة بسحبات الجلال عند كل أذان ينتهي بإفطار الأمة في كل المعمورة على حبات من التمر وكأس من الماء وهناك في بيت الله الحرام وفوق جبل عرفات تتجلى أعظم اللوحات القدسية في يوم البهاء والجلال ولو أردنا وصف ذلك الجمال المنبعث من تلك اللوحة الحقيقية التي تجمع بين شكل الموقف وروعة اللحن الخالد وأسطورة اللون الفضي المتناغم مع ثياب الإحرام البيضاء لما استطعنا أن نحصل على المفردات اللغوية التي تعبر عن روعة ذلك الجمال والجلال الذي يصدر بالهيبة والرهبة في ذلك الموقف البديع .

إن الإسلام قد جعل الجمال يتعدى من الشكل الظاهري إلى باطن الإنسان وجعله ينزل إلى أغوار النفس ويسري في طبائع السلوك ومسارب الأخلاق فقد جعل من خلق الصبر صبرا يمتاز بالجمال ويعبر عن ثكنات الحزن وطوفان المصائب في صورة جميلة تحمل الرضا والثبات وتتزين برداء السكينة وتلبس ثوب الاطمئنان بعيدا عن الخوف والجبن والجزع قال تعالى حاكيا عن حال يعقوب عند فقد ولده يوسف :"... فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون " يوسف الآية (18) ولقد وجه الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم على الصبر والهجر الجميل في مجال الدعوة قال تعالى :"واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا " المزمل الآية (10) وهناك السراح الجميل عند فراق الزوجية وهو خلق راق لم تصل إليه البشرية إلا من خلال دعوة الإسلام قال تعالى : " يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا " الأحزاب الآية (28) وبالمناسبة لقد شاهدت خبرا يحكي عن أحوال انفصال الزوجية في دولة الصين أي أنهم في حال الوصول إلى قرار الانفصال يقوم الزوجان بحفلة تشابه حفلة العرس يوم الدخول في الزوجية وفي طقوس هذا الاحتفال يتم توديع كل من الزوجين صاحبه في صورة مملوءة بالجمال والأناقة وعلى إثرها ينفك عقد الزوجية في سلام ومحبة ووئام .

وأخيرا نقف مع جمالية اليوم الآخر الذي يبدأ بقوله تعالى : " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ... " آل عمران الآية (106) ونقف قليلا مع وصف الجنة تلك الدار الجميلة التي جعلها الله دار ضيافة ومكرمة وإقامة وهي دار يعجز البيان عن إعطاء صورة عن جمالها وماهيتها وتربتها وبيوتها وأنهارها وحسن نسائها وغلمانها وسعة ملكها وخلاصة ما وصفها به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ... ثم قرأ : (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين )" رواه البخاري . ووصف أول زمرة يدخلون الجنة وثاني زمرة ووصف حالهم وطبيعة حياتهم وأزواجهم فقال : " أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة لايبولون ولايتغوطون ولايتفلون ولايتمخطون أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة ...أزواجهم الحور العين على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء " متفق عليه . وقد وصف القرآن الجنة وصفا دقيقا وتكرر ذلك الوصف كلما تكرر وصف النار وصف حورها ونسائها بقوله :" كأنهن الياقوت والمرجان " الرحمن (58) , " فيهن خيرات حسان " الرحمن (70) , " حور مقصورات في الخيام " الرحمن (72) ، " إنا أنشأنهن إنشاء , فجعلنهن أبكارا ,عربا أترابا " الواقعة (35,36,37) ثم صور القرآن ذلك الجمال وتلك الدار وصفا يليق بقدرها ومقامها وهي دار الأحلام وعالم المثل الأعلى فيها الحياة الكاملة والنعيم المقيم والجمال الخارق والزينة البهية فيها الأنهار المتدفقة من تحت القصور من ماء ولبن وعسل مصفى والخمر العتيقة التي لاتنزف العقول فيها الذهب والحرير وما تشتهيه الانفس وتلذ الأعين .

وأخيرا فالإسلام دين الجمال والفن والأناقة دين المحبة والخير والسلام دعا إلى جمال الظاهر والباطن دعا إلى الحياة الجميلة والخلق الجميل والتعامل الحسن والتصرف المنطقي المتقن القائم على ضبط الأمور وإدارتها في صورة حسنة بهية رائعة تزدان بلآليء الجمال وبنضار الحسن وبكمال الإتقان والإسلام لا يتعارض مع الفنون الإنسانية التي تحمل روح المبادئ السامية فترفد الحياة بالقيم والمثل الكريمة وتجسد للأمة الحياة الجميلة القائمة على التعامل الراقي المتولد من فن الرياض الغناء والحقول الخصبة التي يجسدها ديننا واقعا ملموسا يعكس رفاهية الفكر وأناقة التعامل مع ضمير الإنسانية الراقية .