الاربعاء ، ٢٤ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠١:٥٠ مساءً

التداوي بالقرآن الكريم بين الجائز والممنوع

إبراهيم القيسي
السبت ، ١٥ يونيو ٢٠١٣ الساعة ١٢:٤٠ مساءً
لقرآن الكريم كتاب الله المنزل لهداية البشر والدستور الإلهي لتنظيم حياة الناس عقيدة وشريعة وأخلاقا وهو كلام الله الذي لا يمل من كثرة الرد المتعبد به تلاوة وهو النور المبين والصراط المستقيم فيه العظات والعبر من أخذ به اهتدى ومن تركه ضل الطريق المستقيم .

إن مسألة التداوي بالقرآن أمر يحتاج إلى إيضاح بعض جوانبه ومعرفة بعض عمومه وخصوصه ومطلقه ومقيده وجائزه ومكروهه فالمسألة تحتاج إلى كشف كثير من جوانبها المختلفة من حيث دلالة النصوص ونوعية الأمراض وكيفية التداوي به فالقرآن شفاء لكل الأمراض القلبية والنفسية والعصبية والبدنية لكن بفقه وتوكل وثقة وإيمان مع مراعاة بعض الخصوصية التي تحتاج إلى تفصيل بالنسبة للأمراض البدنية قال تعالى :" وننزل من القرآن ماهو شفاء ورحمة للمؤمنين " الإسراء(82) وقال تعالى :" يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور " يونس (57) ورسالة الإسلام جاءت لإخراج الناس من الظلمات إلى النور وجاءت لترسي قيم الحق والهدى وتهدم ظلمات الكفر والضلال وتنظم شئون الحياة على أسس ومبادئ القرآن .

فالإسلام دعا المؤمن إلى اتخاذ أسباب القوة والصحة " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ... " (مسلم ) وحظه على اتخاذ وسائل العلاج والتداوي " ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء " متفق عليه وأريد هنا أن أميز بين التداوي بالقرآن في الأمور المتعلقة بالقلب من حيث علاج الكفر والنفاق والشك والريب من أجل نيل أسباب الهداية ومعرفة الحق من الباطل فهذه المسألة لها الأولية في الدواء من القرآن كون القرآن كتاب هداية وتشريع بإجماع الأمة وما جاء فيه من شفاء للأبدان فهو من قبيل التبرك والاستعانة على تخفيف البلاء .

أما المسألة الثانية فهي التداوي بالقرآن فيما يعرض للإنسان من هم وغم وما يعرض له من وساوس شيطانية وسحر ومس وحسد وبغضاء فقد تظاهرت النصوص الشرعية على اتخاذ التحصينات واتخاذ الأدوية بالقرآن بالطريقة التي كان يستخدمها ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهناك يذكر بعض السور والآيات مثل سورة الإخلاص والمعوذتين وآية الكرسي وخواتيم سورة البقرة وفواتحها ...الخ وكذلك الكثير من الأحاديث الخاصة بحصن المسلم وكل آيات القرآن في هذا المجال معين لا ينضب يمكن التبرك بها لدفع الوساوس الشيطانية والهموم الإنسانية " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " الرعد (28)
أما المسألة الثالثة : هي استعمال القرآن في علاج الأمراض البدنية المتعلقة بأعضاء الإنسان فهذا فيه نظر وتفصيل للقول لكن قبل الخوض في مناقشة هذه المسألة أريد أن أؤكد أن الشريعة الإسلامية جاءت من أجل حفظ الكليات الخمس وهي حفظ الدين والعقل والنفس والنسل والمال وهذه الكليات الخمس أعطت الإنسان الحفظ والصيانة من أي استهداف يضر به في دينه وعقله ونفسه وماله وعرضه فجاءت شرائع الإسلام كلها من حلال وحرام تصب في هذا المنحى فالوضوء والصلاة والصيام كلها أمور تحافظ في الحقيقة على حمية الإنسان من الأمراض والأدواء فالنظافة المتكررة التي تعتبر من شرط الصلاة تغسل عن الإنسان مليارات الجراثيم التي لو هيئت لها الظروف لقتلت هذا الإنسان وكذا تحريم الخمر والخنزير والخبائث كلها تصب في الحمية والحفاظ على صحة الإنسان من الأمراض التي تسببها هذه المحرمات لعقل الإنسان وجسده وكذا ما يتعلق بالأعذار من المسح على الجبيرة والجروح الخطيرة والرخص في الأمور الضرورية في حالة عبادة الإنسان قائما فقاعدا أو على جنب كذا الرخصة للمحرم بالحلق إذا آذاه القمل أو غيرها كل ذلك يصب في الحفاظ على صحة الإنسان ورعايته .

والآن أرجع إلى المسألة الثالثة: وهي التداوي بالقرآن فيما يتعلق بالأمراض البدنية وهذه المسألة اختلف فيها العلماء إلى فريقين الأول يقول بالمنع والثاني بالجواز واختلافهم حاصل حول مدلول الآية (82) من سورة الإسراء والآية ( 57)من سورة يونس فأصحاب الرأي الأول يقولون بأن القرآن كتاب هداية وتشريع ودلالة الشفاء في الآيتين تدل على شفاء القلوب من الزيغ والكفر والنفاق وكل الأمراض القلبية من شك وريب ولذا أورد الشيخ رشيد رضا قول حسن البصري: " إن الله قد جعل القرآن شفاء لما في صدوركم ولم يجعله شفاء لأمراضكم " وذهب بعض المفسرين إلى :" إن تنكير شفاء يدل على الخصوص لا على العموم " ثم ناقش صاحب تفسير المنار أدلة القائلين بدلالة عموم الشفاء في الآية (57) ورد تلك الأدلة بكلام منطقي ورجح كون الشفاء الوارد في الآيتين يتعلق بشفاء القلوب وهدايتها إلى الصراط المستقيم .

أما أصحاب الرأي الثاني فهم القائلون بدلالة عموم الشفاء في الآيتين للأمراض القلبية والبدنية وأن من في الآية (82) دالة على الجنس واستدل هؤلاء بحديث رقية اللديغ بالفاتحة وهذا ما عليه جل المفسرين حسب اطلاعي في تفاسير ابن كثير والشوكاني وابن الجوزي وابن القيم والشنقيطي والشعراوي ... الخ يقول : ابن الجوزي في التسهيل " ... والمراد بالشفاء أنه يشفي القلوب من الريبة والجهل ويحتمل أن يريد نفعه من الأمراض بالرقيا به والتعويذ " ويقول : في زاد المسير " فيه ثلاث أقوال :شفاء من الضلال لما فيه من الهدى وشفاء من السقم لما فيه من البركة وشفاء من البيان للفرائض والأحكام " أما الشوكاني فأورد الخلاف إلى طائفتين وذكر مؤكدا بقوله لا مانع من حمله على الجميع وذلك ما أكده أيضا الشنقيطي في أضواء البيان وكذلك الشعراوي في تفسيره .

والذي أخلص إليه من الذي سبق أن القرآن شفاء للقلوب من الكفر والشرك والمعاصي والذنوب وهو كتاب هداية يبين للناس طريق الحق ويحذرهم من طرق الضلال وهذا أمر مجمع عليه وهذا هو المقصد والوجهة وهو معجزة الرسالة المحمدية وطب القلوب ودواؤها ويتعلق بهذا ما يحصل للإنسان من الأمراض المتعلقة بالقلب والنفس من الحسد والبغض والكذب والزور والهم والحزن والثكل والتحصينات من السحر والمس الشيطاني والوساوس النفسية الخبيثة المتعلقة بهمزات الشياطين كل ذلك من المتفق عليه شرعا وعقلا والنصوص متظاهرة على الأدلة الشرعية من القرآن والسنة أما ما يتعلق بدواء الأبدان فالمسألة ليست مطردة ولا يقاس عليها والخلاف وارد فيها والتطبيق العملي محفوف بكثير من الإحراجات الشرعية والمسألة لها جوانب أخرى من الأدوية المادية المعروفة والطب النبوي مملوء بالكثير من الأمثلة التي وصفها ــ الرسول صلى الله عليه وسلم ــ علاجا من خارج القرآن فقد وصف الحبة السوداء والعسل والماء البارد للحمى وكذا الشعير واستخدم صلى الله عليه وسلم الحجامة والكي ... الخ وهناك الكثير من الأمثلة التي تدل على مرض ــ الرسول صلى الله عليه وسلم ــ ومرض أصحابه مثل عمران بن الحصين وسعد بن أبي وقاص وكذا مرض أزواجه وأولاده ولم يثبت دليل شرعي على اقتصاره ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاجه لتلك الحالات المرضية على القرآن وكل تلك الحالات تدل على أن التداوي بالقرآن ليس على الإطلاق وإنما قد تكون هناك بعض الرقى المأثورة عنه عند عيادة المريض وجلها من خارج القرآن كان يعطيها ــ صلى الله عليه وسلم ـ عند زيارته للمريض للمواساة والتخفيف من ضغط آلام المرض وهذا ما كان يفعله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند موته من قراءة المعوذات والنفث في كفيه والمسح بهما على جسده فلما ثقل كانت عائشة تفعل ذلك نيابة عنه وفي هذا زاد وطاقة لتحمل المريض شدة الآلام .

وخلاصة القول إن المرض قدر من الله وله عدة وقد شرع الإسلام التداوي بالمباح وفي حالة عجز الطب عن علاج أي مرض خبيث وكان الإنسان لديه الثقة والتوكل والاستعانة بالله واستخدم الرقية بالقرآن مع التعرض للابتهال والدعاء والتعرض لنفحات الحق وساعات الإجابة والتزم الصبر والتسليم لله فهذا ربما يمن الله عليه بالشفاء والشواهد على ذلك كثيرة من الواقع المعاش وقد تدخل في ذلك الكرامة فقد ابتلى الله الكثير من أنبيائه وأصفيائه مثل أيوب ويعقوب ودواود وسليمان ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد من الله عليهم بالشفاء والعافية بعد فترة كبيرة من الزمن والمعاناة ومن هنا فإني لا أرى استخدام القرآن للرقية على سبيل التكسب والفتح للعيادات التي هدفها العائد المادي لما في ذلك من المحذورات الشرعية التي تجعل القراءة للقرآن ليست للشفاء بالتوجه بها إلى الله مباشرة كونها عبادة بل تنقلب مع الزمن والعادة إلى وسيلة للتكسب والسعي وراء الربح المادي وذلك ظاهر الذين اتخذوا العيادات للرقية فدخل فيها أمور كثيرة أخرجتها عن التعبد بتلاوة القرآن إلى التكسب به قال : صلى الله عليه وسلم ـ " من قرأ القرآن فليسأل الله به فإنه سيجيء أقوام يقرؤون القرآن يسألون به الناس " (صحيح الجامع)والله المستعان وهو الأعلم بالصواب .