الجمعة ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠١:٣٥ مساءً

مواقف وجدانية ,,, من وحي الثورة

عباس القاضي
الأحد ، ٠٩ اكتوبر ٢٠١١ الساعة ١٠:٥٠ مساءً
كان هذا الموقف قبل عشر سنوات , وعمره يومها عشر سنوات أيضا حينها كان أصغر أبنائي , أُصيب بوعكة صحية , وكنت صبوراً على مرض أبنائي إلا أن مرضه هذه المرة يختلف , توجهت بعد صلاة المغرب إلى العيادة ,كان الطبيب مرتبكا , ويقول لي بسرعة ,بسرعة سألته إلى أين ؟ ولماذا ؟ إلى المستشفى عنده "الزائدة",,رد علي وهو يشير إلى أحد المستشفيات الأهلية في شارع تعز,,لا أدري كيف مشيت أو ركبت إلى جولة الأوقاف في عصر,,لأصعد و إبني إلى الحافلة,,كان متكورا بجانبي ومنكفئ على وجهه بحضني ويلف يده إلى خاصرتي البعيدة ويضغط عليها في بادئ الأمر. بدأ يتصبب عرقا باردا ويده ترتخي من خاصرتي,,أصابني الفزع الخوف,,الحيرة. وضعت أناملي على رأسه لأحرث شعر رأسه من مقدمة إلى مؤخرة رأسه وكأنني أحصيها , شَعرةً,شَعرة . قلت ليته , يئن , يصرخ حتى أحس أن فيه بقية حياة . تمر بي الذاكرة منذ ولادته فيه بكاؤه أجمل من ضحكاته, شقاوته أجمل من هدوئه ,, تذكرت كيف كنت أجبره على أن يمشي على ركبتيه ويديه عندما يعود من المدرسة , وكيف كنت اهدهده عندما ينام كطفل صغير, بدأ العرق البارد يزداد,,تذكرت بعض المواقف في صغري عندما كنا نتجمهر حول مريض يحتضر كانت النساء يقلن عندما يعرق المريض عرقا باردا هذا عرق الموت,,ياااه بهذه السهولة يضيع إبني من بين يدي .

وَقَفَت الحافلة بالقرب من المستشفى حملت بعضه وسحبت البعض الآخر إبني كانت بنيته جيدة, وطويل نسبيا,,وصلت إلى الجناح المخصص للعمليات, وكان الطبيب في انتظاري, وبيده ورقة وقعت ولم أقرأ ما فيها خلعت ملابسه بمساعدة إحدى الممرضات , وبالنقالة يتحرك, حتى غاب عن ناظري ,وأُغلق الباب دوني,, رفعت أكف الضراعة, أقول يارب,, فألجم لساني لا أدري بماذا أدعو ولكني تذكرت الآن, كنت أقول : يارب سلَِّم ,, سَلِّم . دخلت الغرفة المخصصة لرقوده وبيدي ثيابه علقتها على شمَّاعة قديمة كانت في زاوية الغرفة.

تحسست التلفون لأتصل بأمه وإخوته,,دقائق وهم عندي في المستشفى رغم البعد, عندما وصلت أمه أخذت بتلابيب قميصي وجمعته بيدها وهزَّتني بقوَّة أين عمر-هذا إسمه-؟ تذكرت الحكمة التي مفادها أن يتنازل الرجل عن حقه في بعض الأحيان وتركتها دون مقاومة,,إبنك في غرفة العمليات ,عنده الزائدة,, وبدأت أطمئنها بأنها عملية بسيطة وسيخرج بعد ساعة,,وإخوته يقلبون أبصارهم الى الجدران ,السقف, الممر, لا يدرون ما ذا يقولون ,,دخلت الغرفة ودخلت أمه,,وعندما وقع بصرها على ثيابه صرخت صرخة أحسست أن المستشفى يهتز وأن الصوت بلغ مداه وأخذت الثياب تلثمهم وتشمهم وكأنه جاء نبأ وفاته حاولت والأبناء تهدئتها فلم يسكتها إلا خروجه من غرفة العمليات وهو مغمض العينين من أثر التخدير,,فاق بعد ساعات , قام بعد أيام , خرج بعد أسبوع يمشي على قدميه إلى السيارة التي عدنا فيها الى البيت ونحن نشعر بالفرحة والبهجة والسرور على سلامته,,وهاهو اليوم قد أنهى سنته الثانية في كلية الصيدلة.

عملية الزائدة وهذا الخوف وهذا الهلع أصاب أسرة بكاملها فكيف من جاءه نبأ استشهاد ابنها,أو أُصيب إِصابة بالغة , هذا ما يحكيه الموقف التالي :

شاهدتها وهي تصف نبأ استشهاد إبنها قالت : لم أصدق وهم يقولون احمد الله إبنك شهيد,,وعندما كرروها مرارا أحسست بدوران ولم أفق إلا في السيارة التي أقلتني الى المستشفى الميداني,,كان اولادي أحدهم ممسك بيدي اليمنى والآخر باليسرى وكنت أطل برأسي بين كرسي السائق والراكب الأمامي , أترجاهم بأن يقولوا إبني مصاب ,لا وإصابته طفيفة, كنت ابحث عن كذبة لأصدقها,,,لا , لا إبني صلاح بخير, ودعني قبل ساعتين , قال لي انتظريني على الغداء,,صلاح لم يتغدى بعد .
وصلت إلى المستشفى الميداني,,عشرات الشهداء ومئات الجرحى أمامنا أحسست بأني أمهم جميعا,,صغر مصابي فصلاح جزء من كل.

رأيته مغمض العينين وقد اخترقت الرصاصة رأسه , القيت نفسي عليه أقبله أشم رائحته,,هي ,هي رائحتك يا صلاح لم تتغير منذ كنت طفلا
غير أني اشتم رائحة الدماء والباروت التي أخذت إبني مني ولم يتغدى
رفعوني من فوق صلاح , لا أدري كيف عدت إلى البيت, وكنت بين الحين والآخر أذكر الله وأحمده, كنت ممزق الفؤاد بين ألمي وبين طمعي في الأجر والثواب,فظللت أتقلب جنبا جعلته للحزن والبكاء وجنبا للحمد والشكر والتثبيت , غير أني عندما قمت من فراشي لبعض حاجتي وقع نظري على بعض ثيابه المعلقة في جدار غرفته,,كان صلاح إبني متأنقا فقد كان خياطا,,أخذت قميصا ووضعته على رأسي ووجهي,,ثم ذهبت في رحلة من الحزن والكمد لم أفق منه إلا بتعبي من استلقائي على جنب واحد , فتحولت إلى الجنب الآخر الذي تعودت عليه بأن يكون جنبا للحمد والشكر والتثبيت .

يوم تشييع صلاح وزملائه , استقبِلت بالترحيب في الساحة ونادوني بأم الشهيد,,أحسست بالزهو والفخر وأن قلبي يعانق السماء , زغردت مع الأمهات الأخريات وأنا لم أزغرد في أعراس إخوته, صلينا عليهم وذهبنا لندفنهم وبعد الإنتهاء من مراسيم الدفن وغادر الناس,,أقمت على قبره ونثرت حبيبات القمح عليها للطير, فصلاح مات ولم يتغدى,وعند عودتي نظرت إلى الأرض من حولي فوجدتها كلها قبر صلاح .

وهنا اقول : إن شعوري بما أحست به أم صلاح ناتج عن تجربة بسيطة مرت علي,,وكثير منكم مرت عليه تجارب من هذا النوع .
لهذا أقول لأولئك القتلة الذين لا يتورعون عن سفك الدماء هل خالجكم شعور بهذه المواقف هل أحسستكم بوقع الخبر على الأهل والأصدقاء فكيف لو كنتم مكانهم .