الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٨:٢٣ مساءً

منهجية ابن حزم في الفكر الاصولي

عبد الرحمن الحمراني
الخميس ، ٢٩ أغسطس ٢٠١٣ الساعة ٠٨:٠٠ مساءً


يُعد الامام علي بن احمد بن سعيد ابن حزم مِن احد العلماء القلائل الذي تَفَرَد بمنهجية خاصة في الوقت الذي كان التقليد للمذاهب متوغلاً في صفوف العلماء ، ويرجع هذا البُعد الى البيئة التي عاشها وهي بيئة لُغوية بحته تجعل من اللغة المشروع الثقافي والفكري وتُعيد الاعتبار للعقل في فهم النص ، ولذلك كان هذا الامام قد تَشَرب اللغة بما فيها علم البيان ، وكان مُلماَ بكل العلوم الموجودة في عصره تقريباَ ، حتى العلوم التي كانت تُعد في تلك المجتمعات من العلوم المُستهجنه والمُستنكرة ووصف من يَتحصَلَها بالفاسق والزنديق كعلم الفلسفة والمنطق ، ولذلك نجد ان توغله في كل العلوم اكسبه مهارة البحث والاستنباط والتأمل والتجديد .

عمل ابن حزم على ان لا يظل ماكثا في صومعة المذاهب ، مع انه تمذهب المذهب الشافعي اضافة الى بيئته المالكية ؛ فقد نظر الى منهجهم المُتمثل في الاجتهاد بالرأي مع اختلافهم بقبول الادلة وردها ، وانفرد بمنهج انكر من خلاله الاجتهاد بالرأي من قياس واستحسان ومصلحة مرسلة وسد ذريعة وغيرها ، وجعل الاجتهاد محصورا في النصوص الشرعية ، أما ما لم يرد فيه نص فقد استخدم أصل الاستصحاب ، ولذلك نجده يخالف الشافعي في قبوله للقياس ، فقد انكره تماما جَليُه وخَفيٌه ، ولعل هذا مما اثار الجدل بين العلماء كيف لرجل بحجم ابن حزم ان ينكر دليلا شرعيا معتبرا في اكثر كتب اصول الفقه وهو القياس ؛ غير ان الباحث في ما كتب ابن حزم يجد مسوغاته ومبرراته ، ولسنا بصدد تقييمها .

ان ابن حزم حين انكر القياس لم ينكره بالكُليه ، فهو يرفض الاخذ به في الاحكام الشرعية فقط ، أما مبدأ القياس كمنهج علمي وطريق من طرق البحث فهذا لم ينكره بل أخذ به ونبه على ضرورة الأخذ به والاعتماد عليه في البحث . والفرق كبير بين الأخذ به كمنهج يقيني في البحث ورفضه في مجال الاحكام الشرعية لأنه ظني لا يقيني وتحكم بلا دليل .

ولعل من مبرراته في حركته الثورية على القائلين بالقياس ، تتجه نحو اعادة الاعتبار للنص ، ففي نوازل لم يرد فيها نص وجد ان هناك من اخذ غياب النص فرصه ثمينة للتعليل وتفعيل القياس والقول فيها تحليلا وتحريما تماشيا مع الجو العام الذي كان يعيشه والذي كثر فيه الفساد الاخلاقي و الاجتماعي والسياسي . من جهة اخرى فقد انكر كل الاثار والأحاديث المأثورة في فضل القياس والعمل به ، كما انه عد العمل بالقياس نوعا من السفسطة ، ولعله انما فعل ذلك توسيعا على الناس وتيسيرا لهم في دينهم ، ذلك ان العقل البشري في مجال النوازل حيث لا يوجد نص ليس له التَقَوُل بان هذا حلالاً أو حراماً فمجاله محدود ، وحينئذ يبقى العمل بالأصل وهو الاباحة .

يرى ابن حزم العمل بالقرآن بمقتضى الظاهر فقط ، ولذلك فهولا يخرج عن ظاهرية النص بتاتا ،فهو يقول في هذا : من ترك ظاهر اللفظ وطلب معنى لا يدل عليه لفظ الوحي فقد افترى على الله ، مستشهدا بقوله تعالى : (أوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ) (العنكبوت : 51) ، فأوجب الله تعالى ان يكتفي بتلاوته ، وهذا هو الاخذ بظاهره ، وإبطال كل تأويل لم يأت به نص أو إجماع ، وأن لا يُطلب غير ما يقتضيه لفظ القرآن فقط ) . وحين نقف عند القول بظاهرية ابن حزم فإننا لابد ان نرجع الى المخزون اللغوي لهذا الرجل وتشعبه في علوم الفلسفة والمنطق ..، فقد كان يريد ان يُصَدِر فكرا ثقافيا وسطيا لا يهمل النص والعقل ، ولا يميل بأحدهما على الاخر ، ولذلك فهو يريد من المجتهد ان ينطلق من النص نفسه وتركيبه ودلالات الفاظه ، دون ان يتعب نفسه في البحث عن الدلالات الخافية . وهذه النظرة من ابن حزم تتماشى مع الاعجاز القرآني البياني .

وفي السنة كانت لابن حزم منهجيته فقد كان يفرق بين السنه القولية والفعلية، فالبيان محصورٌ في السنن القوليّة دون غيرها، والسنن الفعليّة المجردة عن القول تكون للتأسّي، واستشهد بقوله تعالى : (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: 44) ، والبيان هو الكلام ، والكلام منه صلى الله عليه وسلم ليس الا وحياً فقد قال الله: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوْحَى( (النجم: 3-4) ولذلك السنة العملية عنده ليست للتشريع انما هي للاقتداء ، وفي السنة القولية نجده يَعمَل بالآحاد ، حتى انه خالف الشافعية في منعهم لنسخ القرآن بالسنة عموما ، وخالف الحنيفة في النسخ بخبر الاحاد للقرآن وتخصيص عمومه . وقد استشهد بأمثله منها : ( فَأَمْسِكُوْهُنَّ فِيْ الْبُيُوْتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيْلاً) (النساء: 15)فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم "خذوا عنّي خذوا عنّي، فقد جعل الله لهنّ سبيلاً؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب سنة، والثيّب بالثيّب جلد مائة والرجم"، " فكان هذا القول النبوي ناسخاً للحبس الذي ورد به القرآن ، وفي التخصيص : (إنما حرّم عليكم الميتة والدّم...) (البقرة: 173)، فقد خُص بالسنة بعضُ الميتة وبعضُ الدّم بقوله صلى الله عليه وسلم "أحلت لنا ميتتان ودمان؛ السّمك والجراد، والكبد والطحال".
وفي الاخير نجد ان ابن حزم كانت له منهجيته الخاصة في استنباط الحكم الشرعي فهو اخذ بظاهر النص الذي يتماشى مع التيسير للناس ورفع الحرج عنهم بعيدا عن الايغال في الدلالات الخفية التي تضيق من دائرة الاباحة ، كما انه توسع في الاستصحاب الذي هو البقاء على الاصل عند عدم توفر الدليل ، كما انه انكر الاجماع فليست له حُجيه الا ما اجمع على نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك فليس اجماعا ولا تقوم الحجة به ، وقد وقع ابن حزم في فخ الاخذ بسنة الاحاد فهي تفيد عنده العلم لا الظن ،وربما ما حمله على ذلك هو عدم القول في الرأي في كل المسائل من قبل الفقهاء . ومع ذلك يبقى ابن حزم صاحب نظرية تجديده في التعامل مع النص ، فقد جسد روحا كفاحية ضد قول الفرد الواحد الفقهي ، نابذا التقليد والمقلدين داعيا الى التجديد وفتح باب الاجتهاد ، ونقد المنهجيات السابقه وايجاد وسائل اخرى للتعامل مع النص، ولو لم تكن له الا هذه لكفته مدحا .