الخميس ، ٢٥ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٦:٤١ صباحاً

التداوي بالقرآن (رؤية حول دلالة حديث اللديغ وأخذ الأجرة على قراءة القرآن)

إبراهيم القيسي
الجمعة ، ٢٢ نوفمبر ٢٠١٣ الساعة ٠١:٤٠ مساءً
تحدثت في المقال الماضي عن دلالة الآيتين (82)و(57) من سورتي الإسراء ويونس وبينت دلالة الشفاء في الآيتين وقسمت تلك الدلالة إلى ثلاثة أقسام وهي ما يختص بهداية القلوب وما يختص بأمراض النفوس وما يختص بالأبدان وخلصت إلى شرعية الشفاء في حالتي مرض القلوب والنفوس بصورة مطلقة ومشروعة وخصوصية دواء الأبدان بصفة مقيدة في حالات معينة من ناحية التبرك والاستعانة به في حال تعذر علاج الأبدان بالعلاج المادي .

وعندما رجعت إلى جل المفسرين رأيت استدلالهم بالآيتين على شمولهما لعلاج القلوب والأبدان متكئ على حديث اللديغ ولذا سأتحدث في هذا المقال عن دلالته على ضوء القواعد الأصولية المقررة فحديث اللديغ يحمل في دلالته خصوصية واضحة وجاء في مناسبة هي أقرب إلى الضرورة وكون الراقي ليس مشهورا عند أصحابه بالرقية وكون أهل الحي لم يقوموا بإكرامهم وقد قيده البخاري بقوله :"ما يعطى في الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب " ولذا دلالة الحديث تتداخل معها عدة قضايا ومن تلك القضايا " حق الضيافة " وللضيف أن يأخذ حقه من الضيافة بالقوة إذا امتنع أهل الحي عن ضيافته ولذا امتنع الراقي عن رقية اللديغ فقال : " فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلا " فنزل أجر الرقية منزلة أخذ الضيف حقه بالقوة وهو أمر مشروع وكأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ نظر للمسألة من هذه الدلالة فقال : واضربوا لي معكم بسهم " قال ابن حجر " وكأنه أراد المبالغة في تأنيسهم وقع له في قصة الحمار الوحشي وغير ذلك " والحديث مقيد بالرقية من العين والحمة والحميات هي السموم الخاصة بالعقرب والحيات ويختص بسمية العقرب على الغالب فالسيد اللديغ قد أصابته لدغة إما من عقرب وإما من حية وكأن الصحابي قد سمع الحديث الذي رواه عمران ابن الحصين عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " لا رقية إلا من عين أو حمة ".(رواه أبو داود وصححه الألباني) ودلالة الحديث واضحة في قصره الرقية على أمرين وهما العين والحمة وكأن فعل الصحابي لمبادرته الرقية بالفاتحة يعلم فضلها كونها السبع المثاني ولعلمه بإباحة رقية الحمة استخدم الرقية مقابل الأجرة وقابل الأجرة بالحرمان من الضيافة والأمر شبيه لما جرى لموسى والخضر غير أنه في حادثة الخضر يتكئ على الاختبار لموسى ومقدار ثباته على رؤية ما يخالف الشريعة في ظاهر الأمر أما الخضر فعمله يتبع الفقه الخاص بعلل متجلية لديه حول إصلاح الجدار فبادر موسى قائلا " قال لوشئت لتخذت عليه أجرا " الكهف (77) فواقع الشريعة يرى الأجر مقابل العمل بينما العلم الذي اختص به الخضر يهدف لأمر خارج عن ظاهر الحكم كون الجدار ليتيمين في المدينة وليس لهم من يقوم بشأن الكنز ونتيجة لصلاح والدهم هيأ الله الخضر بإصلاح الجدار فكان العمل ليس له علاقة هنا بأصحاب القرية الذين امتنعوا عن إطعامهم وإنما باليتيمين .

والحديث من الأعمال التي عملها الصحابي بدون أمر من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابتداء فكان إقراره له داخل تحت قاعدة ما قاله الشاطبي : في معرض حديثه عن أنواع الأدلة الشرعية " أن يكون مما فعل فلتة فسكت عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع علمه به ثم بعد ذلك لا يفعله ذلك الصحابي ولا غيره ولا يشرعه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا يأذن فيه ابتداء لأحد فلا يجب أن يكون تقريره عليه إذنا له ولغيره " فالحديث واضح من حمله على هذه القاعدة الأصولية فقد فعل فلتة من الصحابي وكان إقراره من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصفة خصوصية فلم يثبت عمله مرة أخرى لا من الصحابي الذي عمله ولا من غيره ولا من النبي ـ صلى الله عليه وسلم والأمثلة على تلك القاعدة كثيرة ومستفيضة في السنة النبوية منها قصة الرجل الذي ربط نفسه في سارية المسجد بدعوى كونه خان الله ورسوله فأقره النبي صلى الله عليه وسلم ومنها الرجل الأنصاري الذي انفلت عن إمامة معاذ فصلى وحده وذهب إلى بستانه فأخبر عنه معاذ فوصفه بالمنافق فشكى الرجل معاذ إلى رسول الله فقال : صلى الله عليه وسلم لمعاذ : أتريد أن تكون فتانا يا معاذ " (رواه مسلم )والرجل الذي سجد دون الصف فقال له ـ صلى الله عليه وسلم ـ " زادك الله حرصا ولا تعد " (رواه البخاري)ومثل هذه الأعمال التي حصلت فلتة من الصحابي وأقرها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ظروف خاصة تجري مجرى الضرورات فكانت محدودة الدلالة كونها لم تتكرر من الصحابي مرة أخرى وهذا ظاهر حديث اللديغ يحمل تلك الدلالة والخصوصية المحدودة فليس دلالته دلالة عموم للأسباب التي أوضحناها آنفا وكونه معارض أيضا بأحاديث صحيحة أخرى تنهى عن أخذ الأجرة على تعليم القرآن منها حديث عبادة بن الصامت " ... فقلت يا رسول الله رجل أهدى إلي قوسا ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله قال إن كنت تحب أن تطوق طوقا من النار فاقبلها " (رواه أبو داود وصححه الألباني ) والحديث ظاهر في النهي بالوعيد الشديد وهذا نص عليه العلماء فالوعيد الشديد لا يكون إلا في أمر من الأمور التي تعد من كبائر الذنوب .

وقد يستدل البعض على جواز الأجرة على تعليم القرآن بما ورد في البخاري من حصول حادثة المرأة التي وهبت نفسها للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "...فلم يجبها شيئا فقام رجل فقال يا رسول الله أنكحنيها قال :هل عندك من شيء ؟ قال لا . قال اذهب فاطلب ولو خاتما من حديد فذهب فطلب ثم جاء فقال ما وجدت شيئا ولا خاتما من حديد . قال :هل معك من القرآن من شيء ؟ قال :معي سورة كذا وسورة كذا . قال : اذهب فقد أنكحتك بما معك من القرآن " (رواه البخاري )والروايات المتعددة التي ساقها الحافظ في الفتح تدل على ضرورة ملحة وقفت أمام أمر تزويج الرجل فقد سلك كل السبل للبحث عن مهر حتى لو كان خاتما من حديد حتى وصل به الأمر إلى بذل إزاره فرأى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن أعطاها إزاره بقي بدون إزار وفي بعض الروايات ولى الرجل فدعاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وزوجه على ما معه من القرآن فالحديث ليس فيه دلالة على أخذ أجرة على تعليم القرآن وإنما هي حالة ضرورية خاصة لا يقاس عليها مثلها مثل صاحب كفارة رمضان الذي حط عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ العتق والصوم والكفارة وكفر عنه بشيء من بيت المال وهذه الكفارة نفسها أعطيت للرجل لأنه ليس هناك من أفقر منه فقاعدة الضرورات من يسر الشريعة وسماحة الإسلام .

فمن الطرح السابق نقف أمام مسألة مشروعية الأجرة على تعليم القرآن والرقية وتلاوته وإهدائها للحي والميت فأما حالة تعليمه فحديث عبادة بن الصامت واضح في المسألة وهذا هو الأصل الذي بنى عليه أبو حنيفة قاعدته المعروفة والتي تقضي بحذر أخذ الأجرة على تعليم القرآن وأجازه غيره من العلماء مع اجتماع رأيهم على كون تعليم القرآن عبادة لقوله : صلى الله عليه وسلم " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " (متفق عليه )والكثير من العلماء وخاصة الحنابلة قالوا ما يعطى المعلم للقرآن هو مقابل تفرغه وليس مقابل أجرته فإذا أضفنا هذا القول إلى قول أبي حنيفة ترجح عدم الأخذ للأجر فيكون ما يعطى معلم القرآن مقابل تفرغه لتعليم كتاب الله وأما التزويج بالقرآن فالأمر واضح فيه فقد قام تعليم المرأة لآيات من القرآن مقام المهر المادي وهذه منقبة عظيمة في التزويج على هذا المهر وهي حالة خصوصية لمن لا يقدر على إعطاء المهر المادي والحديث واضح في تفصيل المسألة وأما أخذ الأجر على الرقية بالقرآن فحديث اللديغ لا يدل على ذلك وجل من أباحها اعتمد على هذا الحديث فالرقية في الحديث تدل على الخصوصية والأجرة على الرقية في الحديث تدل على الضرورة لأخذ حق الضيافة من أهل الحي عندما منعوا منها وقد تقدم الكلام بالتفصيل في هذه المٍسألة أما مسألة أخذ الأجرة على التلاوة وإهدائها للحي أو الميت فجمهور العلماء على المنع كون هذا العمل لم يشتهر بين السلف وحديث عبادة بن الصامت قاعدة في المنع فإذا منعت الأجرة في التعليم فالتلاوة أولى بالمنع غير أن الشوكاني استدل بحديث اللديغ في أخذ الأجرة على التلاوة وأنزل الحكم هناك على الحكم هنا كما نص على ذلك في نيل الأوطار ويرد قوله الأصل الذي بنينا عليه حديث اللديغ .

وخلاصة الأمر أن حديث اللديغ مقيد من ناحية إباحة الرقية بحديث عمران بن الحصين الذي نص على قصر الرقية على العين والحمة وليس فيه أي دليل على رقية الأمراض البدنية ولا اتخاذ العيادات للرقية فالحديث جاء في ظرف خاص وهو داخل تحت إطار ما فعله الصحابي فلتة وأقره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يعمل به فيما بعد ولم يتكرر فعله من الصحابي وكون القرآن كتاب هداية ودستور لتنظيم حياة البشر فيجب تنزيهه عن الابتذال وما يدور في عيادات الرقية التي خلطت بين ما يجوز وما لا يجوز واستخدمت بعض الوسائل من الخنق والكهرباء والضرب فقد اختلطت هذه الأعمال بالرقية بالقرآن وهذا فساد في المقصد ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح وسد الذرائع أمر مطلوب تحقيقه في هذا المجال فهناك من يتصدر للرقية فمنهم المحسن ومنهم المسي ودخل في الأمر عوامل سلبية وادعاءات ملفقة تقترب من الشعوذة لا تمت إلى حقيقة الرقية بشيء والقصص في ذلك كثيرة فهذه امرأة أصيبت بداء الدرن في عمودها الفقري فأقعدها عن الوقوف فذهب بها إلى الراقي فزعم أن بها عين خبيثة أمسكت بحقوها تحتاج إلى قراءة مطولة وهذا الوصف خارج عن رقية العين الشرعية التي وصف فيها الغسول وتلاوة بعض الآيات والأدعية الشرعية وهناك امرأة مصابة بسرطان في الدم فتعرضت عند القراءة عليها للصعق بالكهرباء والخنق والضرب وكل ذلك غيض من فيض من تلك الأعمال التي يقوم بها الراقون . والله هو الأعلم بالصواب وهو حسبي ونعم الوكيل .