الخميس ، ٢٥ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٦:٢١ مساءً

تباريح وجدانية ,,, من وحي الثورة

عباس القاضي
الثلاثاء ، ٢٥ اكتوبر ٢٠١١ الساعة ١٠:٣٦ مساءً
قالت له وهي تدُس وجهها المغسول بالدموع في حضنه في ليلة صبحها وداعٌ وفراق : يهون عليك يا سلمان تتركني وأنت كنت لي الزوج والأب والأم والأخ وكل أهلي وأنا من تعود عليك.
رد بصوت مُتَحَشرِج وهو يلف بين أصبعيه السبابة والوسطى خصلة من شعرها :لا عليك صغيرتي أيامٌ , وسأعود.
أليس هناك مجال أن تعدل عن هذه الفكرة اللعينة ؟ باغتته بالسؤال وصوتها يعلو نحيبا .
قال لها : أنت تعرفين بأني أنفقت ما جمَعته طوال السنين السابقة واستدنت أضعاف ما كان لدي بزواجنا, حتى إذا كان قبل الزواج بيوم وأنا لا أملك ما أولِم به من " جزور " , وقفت أمي وقالت : هذه بقرتي مَنجَم معاشي التي أغمس في سمنها لقمتي ,وأشرب من لبنها حين تجف كسرة الخبز في فمي, استفيد من "عُجولِها" على قضاء حوائجي لكنها فداك, فأنت وحيدي, وعندما تعود إلى بلا د الغربة-هاااه- أرسل بقيمتها اشتري بقرة أخرى, وذبحنا البقرة يوم عرسنا , واشترطت على الجزار أن يُبقِى قرونَها ملتصقا بجلدها لتأخذه لها , وفعلا أخذته وها هو فوق ( المحطاب ) جوار البيت أراه كلما أغدو أو أروح.
قالت وهي متكورة في حضنه : لماذا غيرُنا ينعم بحياة كلها سعادة , هاهو سعيد بن جارنا حاكم في الشهر الرابع يطوف العالم مع عروسه في شهر عسل لم ينفد, قبل أسبوع قالت أمّه انه اتصل بها من شلالات نياغرا, ويوم أمس قالت إنه اتصل بها من نهر المسيسبي , وأصلحت من صوتها ,متسائلة, أين هو نهر المسيسبي يا سلمان ؟.
قال : هذا يا سلمى في أمريكا الشمالية وهو أعرض نهر في العالم بينما أطول نهر هو نهر النيل عرفت هذا من برنامج بنك المعلومات, ولكن يا سلمى هل تعتقدين أنهم يعيشون في سعادة حقيقية . فأبوه حاكم مسئول يتلاعب بالمناقصات والمواصفات ليجني من ورائه نِسَب من المستخلصات ويَعِبّ المال الحرام في خزانته, ألا تذكرين ابنه سعيد وهو يقود سيارة أبيه لأول مرة عندما عاد إلى الخلف فدهس زكي ابن ماجد ففزع وانطلق للأمام فداس الحاج مقبل فمات الطفل والشيخ , فلما جاء أهاليهم إلى أبيه صاح في وجوههم " فجعتم ابني " وأخرج من حقيبته بعض المال ودسه في جيوبهم فما كان منهم إلا أن عادوا دارجين إلى بيوتهم منكسرين لأنه لا قِبَل لهم به ولن ينصفهم عدل ولا قضاء, إنهم يا سلمى يعيشون أسوأ منا,, هذا النظام يا سلمى أفسد علينا دنيانا وأفسد عليهم دنياهم وآخرتهم.
حاولت أن تخرج به إلى آفاق أخرى , قالت له : تذكُر يا سلمان عندما كنا صغارا نلعب فمرّ أبي وأبوك وقال أبوك : اسمع يا فارع أريد سلمى لسلمان فوافق أبي على الفور وكنت أكثر حياءً مني ! ومن حينها كل أصحاب القرية "يهجلون" سلمى لسلمان وسلمان لسلمى, استدركت وقالت ليتنا كنا تزوجنا وقتها حتى يطول مكوثنا معا,
شهرين يا سلمان "حناء" العرس مازال باقيا في كفي , والخضاب مازال آثاره على ظهر يدي.
أجابها سلمان بتنهيدة هذه المرّة أشد حُرقة : نعم يا سلمى قَدَرُنا في هذه البلد وبسبب النظام أن تكون الأفراح ساعات والأحزان سنوات والسعادة أيام والشقاء أعوام.
تدرين , يا سلمى أنا عن نفسي أتمنى الموت ولا السفر وأدفن في هذه الغرفة لأراك كل ليلة , لأنني سمعت أن الأموات يرون الأحياء.
قالت له : ولكن كيف لي أن أراك,
قل لها : نعم ,هذه راحت علي, تدرين يا سلمى بما ذا أفكر, اليوم نحن على هذا الفراش ستكونين غدا عليه, لكن أنا لا أدري أين سأنام , على سيارة أو على رصيف أو في (لوكندة) فيها المخدّة تزكم الأنوف .
ولكنها ردت عليه : أي أرض تسعني, وأي سقف يظلني, وأي فراش يسعني, وأي غرفة تحتويني, وأنت لست معي !؟ ياغربتي بعدك يا سلمان!.
مسح دموعها, وقال : لاتحرقيني, يكفيني ألم وحسرة,
وأراد أن يخرجها من هذ الحال,,قال : سلمى ما رأيك بشعر غزل ؟ هل أُسمعكِ, قالت : يا ليت , أي شعر تريدين ؟ قالت : أريد ذلك الشعر الذي قلته لي بعد أسبوع من زواجنا,ما زال عالقا في ذهني, كنت تقول لي إن شاعرها ليس مشهورا , واذكر ,,وأذكر,,أذكر عندما قلت لي إنه مهندس, ولقبه القاضي, قال لها : الآن ذكرت,,الشاعر المهندس عباس القاضي, يكفي يا سلمى إنه من أفترض وجودنا في هذه الحياة, ردت وكلها لهفة : اسمعني ها يا سلمان,,أرجوك يا سلمان , هيا , اسمعيها يا سلمي :
أميل إليك صاحبتي **** كَمَيلِ الثّاملِ النشوَى
وأنتِ أنت مَن أنت **** وأنتِ أنتِ مَن أهوَى
إذاجَنَّ الليلُ في سفرٍ**** فأنتِِ جنة المأَوى
وإن أجدبتُ من عطشٍٍ ** فأنتِ السقيا والمروَى
وإن أطعمتِ من جوعٍ ** فطعم المنّ والسلوَى
وأنتِ السِّفرُ في الأكوان** وأروع قصةٍ تُتلَى
فبُثِّي النجوى صاحبتي ** حديث العشق لا يُطوَى
حديث العشق لا يطوى,,,حدثني يا سلمان بحديث العشق لا تبقي في صدرك شيئا فيومنا ليس له غد ,,رددت بعد الأبيات استحسانا لها,
وظل ينادمها وهي تلاومه,,حتى فزعت على نورٍ تسلل من النافذة, ظنَّت أنه الصبح,,صرخت بصوت عال ,,جاء آخذ الألباب ومفرِّق الأحباب,
رفع سلمان جزءا من جسده واتكأ على يده, قائلا : هذا الفجر الكاذب يا سلمى,,وضعت جسدها على الفراش واحتضنته قائلة : أتمنى أن يكون يوم غد شمسه وضحاه كله كاذب,,أتمنى يا سلمان ليلا صبحه يوم القيامة.
نترك سلمى وسلمان وهذه التباريح التي تقطِّعُ القلب,,وهذه تجارب مرّت عليّ وعلى كثير من هذا الشعب الذي حوّل هذا النظام حياتهم إلى جحيم.
أتذكر هذه اللحظات المفزعة وأنا أستعد لوداع مروان أكبر أبنائي إلى سفر معلوم المكان , مجهول المصير,وهوا لذي لم يتعود فراق أبنائه صفاء وفرقان.
أفراد الأسرة كلنا يبكي خُفية,,حتى إذا كان قبل السفر بيوم واحد, اجتمعنا كلنا في حلقة منتظمة,,ثم نبدأ البكاء ,فنبكي ونبكي , حتى إذا ما انتهينا من البكاء,,اخذ زوجته وذهبا ليقضيا ليلة وداعية,,ويبيتا ليلة كلَيلة سلمى وسلمان.