الخميس ، ١٨ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ١١:٣٢ مساءً

يوميات امرأة لا مبالية.. ثورة بحد ذاتهاً

عبدالرزاق العزعزي
السبت ، ٢٩ اكتوبر ٢٠١١ الساعة ٠٧:٥٠ مساءً
من وحي الديوان..

في أجواء مشبعة برائحة البارود والرصاص؛ فجّر نزار قباني ثورة جنسية في ديوان شعري لا يخلوا من الآم ومعاناة نساء الشرق، ديوان "يوميات امرأة لا مبالية".. قال حينها أنه اختار موعده بدقة لأن أي ثورة يقوم بها الجيل العربي الجديد لا تأخذ بعين الاعتبار تحرير هذا الجيل من بعبع الجنس وأفاعيه وعقده الطاحنة؛ تبقى ثورة في الفراغ وخارج الأرض والإنسان..

صحيح أن الوقت غير مناسب للحديث عن الحب والجنس فنحن غارقون في المأساة حتى الركب ولكن هذا هو وقت كل شيء.. وقت الانقضاض على كل شيء.. الوقت الذي يحاول فيه الإنسان العربي أن يغير ويتغير.. والجنس هو واحد من همومنا الكبيرة، بل هو أكبر همومنا على الإطلاق.. ولن يكون هناك تغير حقيقي إذا بقي الورم الجنسي ينهش حياتنا وجماجمنا.. نحن بحاجة إلى كسر خرافة الجنس، والنظر إليه نظرة حضارية وعلمية.. هكذا يقول في يومياته التي أرتدى من خلالها ثوب المرأة ليدافع عن النساء اللواتي حكم عليهن "الشرق الغبي الجاهل المعقّد" بالإعدام ونفذ حكمه فيهن قبل أن يفتحن فمهن..

لبس ثياب امرأة، واستعار كحلها وأساورها ليكتب عنها..

يضع في ديوانه تجربة امرأة امتلكت القدرة على الصراخ والتحدث عن نفسها وجسدها دون أن تلطخها عقدة الذنب وفؤوس العشيرة.. امرأة انتزعت القفل الصدئ الموضوع على فمها ورمته في وجه سجّانها..

امرأة فدائية قبلت "بخيانة منه" أن تمد جسدها وسمعتها جسراً تمر عليه بنات جنسها إلى الضفة الأخرى من النهر.. ضفة الحرية..

وضع تجربة امرأة ليتحدث عن الحرية التي يراها "جواد أبيض لا يستطيع ركوبه إلا الشجعان.. قلعة لا تفتح أبوابها إلا للمقاتلين"

الحرية التي يطلبها للمرأة هي حرية الحب.. أن تقول لرجل يروق لها: "إني أحبك" دون أن تقوم القيامة عليها، ودون أن يُرمى رأسها في تنكة الزبالة.

صدر "يوميات امرأة لا مبالية" في عصر الثورات.. لذلك فإنه يحمل عنف الثورة وجرأتها واستماتتها.. تلاميذ العالم يضربون أسوار العالم القديم.. يقلعون أعمدته.

تلاميذ العالم يبصقون على كل الأوثان ويركلونها بأقدامهم.. التلاميذ يريدون أن يغيروا العالم.. أن يخترعوه من جديد.

العالم القديم يترنح بجامعاته وأساتذته وكتبه وفلسفاته وأخلاقياته ومواعظه.

لم يعد أحد يخاف أحداً.. سقطت كل اللافتات تحت الأرجل ولم يبق سوى لافتة واحدة يحملها الإنسان المعاصر.. هي لافتة الحرية..



"يوميات امرأة لا مبالية"

ثُوري!. أحبّكِ أن تثُوري..

ثُوري على شرق السبايا . والتكايا.. والبخُورِ

ثُوري على التاريخ، وانتصري على الوهم الكبيرِ

لا ترهبي أحداً.. فإن الشمس مقبرةُ النسورِ

ثُوري على شرقٍ يراكِ وليمةً فوقَ السريرِ..

...نزار



قصة اليوميات..

"يوميات امرأة لا مبالية" هو كتابكنّ.. هو كتاب كل امرأة حكم عليها هذا الشرق الغبي الجاهل المعقّد بالإعدام ونفذ حكمه فيها قبل أن تفتح فمها.

ولأن هذا الشرق غبي وجاهل ومعقّد يضطر رجل مثلي أن يلبس ثياب امرأة، ويستعير كحلها وأساورها ليكتب عنها.

أليس من مفارقات القدر أن أصرخ أنا بلسان النساء، ولا تستطيع النساء أن يصرخن بأصواتهن الطبيعية.

ثم أليس من المفارقات المضحكة، أن آتي إلى قاعة الوست هول لأشرح لكن أيتها المباليات مشاكل هذه اللامبالية النفسية والجسدية..

لماذا تصمتن أيتها النساء؟

لماذا أكل القط ألسنتكنّ؟

لماذا تنتظرن من يأخذ بثأركن ولا تأخذن ثأركن بأنفسكن؟

نحن الرجال لا نعطي شيئاً. نأكل البيضة وقشرتها.

ندّعي التحضر ونحن أكثر بدائية من ضباع سيبيريا.

ندرس في جامعات أوروبا ونعود أكثر توحشاً من الماو ماو..

نقدم الورد لعشيقاتنا وننشر رقبة شقيقاتنا بالمنشار..

نحن الرجال، نضع في فمنا السيجار ونتصرف بغريزة الجمل..

نتمشى مع صديقتنا في حديقة عامة وفي أعماقنا تصرخ الغابة..

نتحدث عن الحرية وفي داخلنا تصطك أبواب الحريم وتخشخش مفاتيحه وأقفاله..

نحن الرجال، خلاصة الأنانية وشهوة التملك والإقطاع..

نحن النفاق الذي يمشي على قدمين، والوصولية التي تمشي على أربع..

فلماذا تسكتن علينا أيتها النساء.. لماذا؟..

أليس هناك واحدة منكن، واحدة لوجه الله، تستطيع أن ترد لنا الصفعة صفعتين، والكرباج كرباجين؟

منذ كان الرجل وهو يتحكم بكن، بأقداركن، بأجسادكن، بعواطفكن، بدموعكن، بلذتكن، بفراشكن..

منذ أن كان الرجل وهو يحتكر لنفسه كل شيء.. يحتكر المعرفة والحكمة والذكاء والدولة والسياسة والتشريع والحب والشهوة. يحتكر حتى غطاء السرير..

ومن هنا كان لا بد من العثور على امرأة من هذا الشرق، تملك القدرة على الصراخ، تملك الجرأة على التحدث عن نفسها وعن جسدها دون أن تلطخها عقدة الذنب وفؤوس العشيرة.. كان لا بد من العثور على واحدة.. امرأة واحدة.. تنتزع القفل الصدئ الموضوع على فمها وترميه في وجه سجّانها.

كان لا بد من امرأة فدائية تقبل بمحض إرادتها أن تمد جسدها وسمعتها جسراً تمر عليه بنات جنسها إلى الضفة الأخرى من النهر.. إلى ضفة الحرية..

بحثت عنها طويلاً هذه المرأة الشجاعة.

في المدن بحثت عنها. في القرى بحثت عنها، في الحقول بحثت عنها. في مدارس البنات، في الجامعات، في الجمعيات النسائية، في حفلات عرض الأزياء حيث الحرية تتحرك على مدى عشرة سنتيمترات فوق الركبة ولا تتعداها إلى قلب لابسة الثوب وإنسانيتها.

ما أضيق الحرية التي طولها عشرة سنتيمترات فقط.. ما أضيقها.

اكتشاف امرأة من هذا الطراز كان معجزة..

ووجه الإعجاز فيها أنها تتكلم وتكتب أيضاً. ليس قليلاً أبداً أن تمارس امرأة في شرقنا النطق والكتابة..

فالمسئولون عن سجن النساء منعوا لسانها عن الحركة.

قطعوه وأكلوه.. أنسوها غريزة النطق. وصادروا منها أدوات الكتابة.

والكتابة التي أقصدها ليست كتابة الفروض المدرسية، وإعداد الأبحاث والأطروحات الجامعية..

الجامعيات عندنا برغم كونهن يكتبن فإنهن لا يكتبن.

رغم كونهن ينطقن فإنهن لا ينطقن. برغم كون الخنجر مزروعاً في ظهورهن فإنهن لا يصرخن.

أنا لا أؤمن بحرية تنفصل عن النطق والسلوك.

حرية المرأة هي أن تسقط في الماء بكامل ملابسها لا أن تتنزه في حديقة الجامعة وهي تتأبط الكراريس المدرسية.

الحرية جواد أبيض لا يستطيع ركوبه إلا الشجعان.

قلعة لا تفتح أبوابها إلا للمقاتلين.

العبودية سهلة. إنها جسد مشلول يتعاطى الحبوب المنومة.

أما الحرية فوجع أبدي لا يريح ولا يستريح.

في شتاء عام 1958 عثرت على هذه المرأة الكنز. أرتني جروحها. أرتني مكان المسامير على نهديها.

أرتني آثار الكرباج على ظهرها. أرتني أوراقها.. حكت لي كل شيء.

تحدثت بلا نظام ولا ترتيب. تحدثت بشفتيها وأهدابها ودموعها وأظافرها.

تحدثت بلين وشراسة، بطفولة ووحشية، بحقد وغفران، بكفر وإيمان، باحتقار وسخرية، بهدوء وعصبية، بشجاعة وتحدٍ..

تكلمت بطلاقة من قضى آلاف السنوات ممنوعاً عن الكلام.

تكلمت بحماسة طير وجد أمامه فرصة للهرب..

كانت هذه المرأة تأتيني كل مساء في شتاء عام 1958 وكنت يومئذ ديبلوماسياً في الصين.

شتاء كامل وأنا أستقبل هذه المرأة دون أن يخطر ببالي مرة أن أسألها ما اسمها؟ أين تسكن؟ ما هي مدينتها؟

كان حضورها أقوى من كل أسئلتي. وكانت قضيتها أكبر من التفاصيل والعناوين والأسماء.

ذهبت هذه المرأة وأنا لا أعرف عنها سوى أنها كانت جميلة ورائعة وشجاعة.

ذهبت ولم تترك سوى بصمات صوتها على جدران حجرتي، وسوى حزمة أوراق على طاولتي على شكل جرح.

ظلت هذه اليوميات نائمة في درج طاولتي عشر سنوات.

كانت وصية صاحبتها لي قبل أن تذهب، أن لا أنشر يومياتها. وبعد عشر سنوات قررت فجأة أن أخون صاحبة اليوميات وأنشر كلامها على الدنيا.

لماذا لا أخونها؟

إن ما كتبته هذه المرأة لا يخصّها وحدها.

فهي عندما تتحدث عن حزنها فإنها تتحدث عن كل الحزن، وعندما تتكلم عن جسدها فإنما تتحدث عن كل الأجساد.

وعندما تتحدث عن وجدها وحبها وكرهها وشهوتها فإنما تتحدث عن وجد وحب وكره وشهوة النساء جميعاً.

من هذه الزاوية أستطيع أن أبرر خيانتي لهذه المرأة.

لأنني أعتبر هذه اليوميات مصدراً من مصادر النفع العام كالتماثيل والمتاحف والحدائق العامة يجب أن يراها كل إنسان.

نعم.. لقد خنت متعمداً هذه المرأة عندما نشرت يومياتها. وللمرة الأولى أحب خيانتي وأتلذذ بمذاقها..

اليوميات عمل من أعمال السخط والتحدي.

سخط على التاريخ وتحدّ له في منتصف الشارع. ثم هي رفض لوضع تاريخي واجتماعي ووراثي مهين ومستمر في زوايا كثيرة من عالمنا العربي.

قد لا ينطبق وضع اللامبالية مئة بالمائة على وضع المرأة البيروتية التي تسكن شارع الحمراء أو الدمشقية التي تقطن حي أبي رمانة، أو القاهرية التي تسكن الزمالك؛ فقضية المرأة الشرقية لا تنحصر بثلاث مدن وثلاثة شوارع.

لقد اخترت نموذجي من قرانا وأحيائنا الشعبية وبوادينا حيث لا تزال المرأة تُقايض بالنوق والماعز، وتوزن كأكياس الطحين، وتقوم خلال حياتها بزيارتين..

بزيارتين لا ثالث لهما. واحدة لبيت زوجها والثانية للقبر..

من أجل ماذا كتبت "اليوميات" من أجل من؟

من أجل الحرية.

كتابي هو كتاب الحرية.

والحرية التي أطلبها للمرأة هي حرية الحب. حرية أن تقول لرجل يروق لها: "إني أحبك" دون أن تقوم القيامة عليها، ودون أن يُرمى رأسها في تنكة الزبالة.

حرية أن تقول كل ما تقوله العصافير والأرانب والحمائم في حالات وجدها وعشقها والتحامها العاطفي.

أطالب بنزع الأقفال عن شفتيها، وإنهاء حالة النفاق الكبير الذي تعيش فيه.

نعم.. النفاق الكبير.. فالمرأة الشرقية مستودع نفاق كبير.. فوجهها وجهان.. ونفسها نفسان. وخارجها وداخلها متناقضان. تقول شيئاً وتضمر غيره وتحب رجلاً وتتزوج سواه بسرعة النسانيس.

إنها تحتال على الحب وتكذب وتغشّ، لأن مجتمعنا علّمها أن تكون محتالة وكاذبة وغشاشة.. وما دام مجتمعنا ينظر إلى الحب نظرته إلى حشيشة الكيف، وما دامت كتابة رسالة حب واحدة تكلف صاحبتها الوصول إلى حبل المشنقة فسوف تستمر الازدواجية واللصوصية والتهريب العاطفي، ويظل الحب في بلادنا غلاماً بلا نسب يطرق الأبواب ولا يجد من يفتح له.

نحن مجتمع بلا عافية لأننا لا نعرف أن نحب. لأننا نطارد الحب بكل ما لدينا من فؤوس ومطارق وبواريد عثمانية قديمة.

أما لماذا نشرت "اليوميات" في هذا الوقت بالذات.

لماذا اخترت هذا الجو المشبع برائحة البارود والرصاص لأفجّر هذه الثورة الجنسية.

السبب هو أن أي ثورة يقوم بها الجيل العربي الجديد لا تأخذ بعين الاعتبار تحرير هذا الجيل من بعبع الجنس وأفاعيه وعقده الطاحنة، تبقى ثورة في الفراغ، أي ثورة خارج الأرض وخارج الإنسان.

ما دام جسد المرأة العربية مسيّجاً بالرعب والعيب والخرافة وما دام فكر الرجل العربي يمضغ كالجمل غلافات المجلات العارية ويعتبر جسد المرأة منطقة من مناطق النفوذ والغزو والفتوحات المقدسة، فلن يكتب لنا النصر أبداً. لأننا عاجزون عن الانتصار على أنفسنا.

مخطئ من يظن أن هزيمة حزيران كانت هزيمة عسكرية فقط. فحزيران كان هزيمة للجسد العربي أيضاً.. هذا الجسد المحتقن، المتوتر، الشاحب الذي لا يعرف ماذا يفعل وإلى أين يذهب.

الجسد العربي هزم لأن المحارب لا يستطيع أن يحارب إلا إذا كان في سلام مع جسده.

نحن بحاجة إلى أن نتصالح مع أجسادنا. أن نلتقي بها، فنحن نعيش في قارة وأجسادنا تعيش في قارة أخرى.

كل ثورة عربية جديدة يجب أن تضع في حسابها إعادة الحوار الطبيعي بيننا وبين أجسادنا، وإعادة الحب إلى مكانته الطبيعية كفعالية إنسانية مبدعة وخلاقة، لا كلص خارج على القانون تلاحقه شرطة الآداب العامة.

ما لم نفتح أمام الحب الضوء الأخضر فسوف نظل مرتبكين ومعقّدين ومفلوجين على الأرض كسيارة فرغت بطاريتها..

ما لم نفتح للحب نوافذنا فسوف نظل نباتات شوكية لا تورق ولا تزهر. وتظل قلوبنا قارات من الملح لا يخرج منها أي غصن أخضر.

ما لم يصبح الحب عاطفة سوية وطبيعية في بلادنا فسنظل كلنا - رجالاً ونساء - غير طبيعيين وغير سويين وعاجزين عن القيام بأي إنجاز حضاري عظيم.

يصدر "يوميات امرأة لا مبالية" في عصر الثورات . لذلك فإنه يحمل عنف الثورة وجرأتها واستماتتها.

تلاميذ العالم يضربون أسوار العالم القديم. يقلعون أعمدته.

تلاميذ العالم يبصقون على كل الأوثان ويركلونها بأقدامهم.

التلاميذ يريدون أن يغيروا العالم . أن يخترعوه من جديد.

العالم القديم يترنح بجامعاته وأساتذته وكتبه وفلسفاته وأخلاقياته ومواعظه.

لم يعد أحد يخاف أحداً. سقطت كل اللافتات تحت الأرجل. ولم يبق سوى لافتة واحدة يحملها الإنسان المعاصر.

هي لافتة الحرية. ولأنني مع الحرية حتى النفس الأخير أصدرت "اليوميات".

ولأن أصابعي حرية، وورقي حرية، وحبري حرية، أصدرت اليوميات.

كان بإمكاني بالطبع أن أسجن اليوميات عشر سنوات أخرى في جوايري. كان بإمكاني أن أحرقها.

ولكنني لم أتعود حرق أفكاري. ربما قال قائل: وهل هذا وقت الحديث عن الحب والجنس ونحن غارقون في المأساة حتى الركب؟

ومرة أخرى أقول: إن هذا هو وقت كل شيء..

وقت الانقضاض على كل شيء. لأنه الوقت الذي يحاول فيه الإنسان العربي أن يغير ويتغير.

والجنس هو واحد من همومنا الكبيرة، بل هو أكبر همومنا على الإطلاق. ولن يكون هناك تغير حقيقي إذا بقي الورم الجنسي ينهش حياتنا وجماجمنا.

نحن بحاجة إلى كسر خرافة الجنس، والنظر إليه نظرة حضارية وعلمية فليس من المعقول أن نكون على أعتاب القرن الحادي والعشرين ولا نزال ننظر إلى الجنس نظرة البدوي إلى منسف.. بكل ما فيها من ضيق وجوع وعشائرية، وننظر إلى جسد الأنثى كساحة حرب وميدان ثأر.

نريد أن نرد جسد الأنثى إليها. فهو حتى الآن ملك التاريخ والأعراف والمؤسسات الدينية والدنيوية تتصرف به على كيفها وتضع له قوانين سلوكه قبل أن يولد.

نريد أن نخلّص جسد المرأة من المزايدات الأخلاقية والعنتريات . فالرجل الشرقي - وهذا أخطر ما في القضية - يربط كل أخلاقياته بجسد المرأة لا بأخلاقياته هو. فهو يكذب، ويسرق، ويزوّر ويقتل ويشلّح على الطريق العام ويبقى أطهر من ماء السماء حتى يعثر في درج ابنته على مكتوب غرام فيشدها من ضفائرها، ويذبحها كالدجاجة ويلقي قصيدة شعر أمام قاضي التحقيق.

سيقول المتزمتون إني أحرض النساء على الحب.

الواقع أنني لا أخاف التهمة ولا أرفضها. بل إنني أباهي بها الخلق يوم القيامة.

فالتحريض على الحب هو تحريض على السمو والنقاء والبراءة والطفولة والعافية.

إنني أحرضكن على أجمل ما فيكن، وأطهر ما فيكن، وأنبل ما فيكن.

أحرضكن على الارتفاع إلى مستوى الإنسان. فنحن نبقى تحت مستوى الإنسان حتى نحب.

وهذه الليلة ستكون ليلة التحريض على الحب.

يعني ليلة الإنسانية.

هذه اليوميات وجدتها مخبوءة تحت حجر في حديقة منزل شرقي قديم.

كانت مكتوبة على أوراق دفتر مدرسي، وبخط عصبي نَزِق.. حتى لكأن الكلمات في تشنّجها أظافر حادة تمزق لحم الورق الأبيض وتنهشه..

ضممت على الأوراق يدي.

كانت باردة، مبتلة، لاهثة كعصفور لا وطن له طار ألف قرن تحت الثلج والمطر..

وفي غرفتي فتحت غطاء الكنز المسحور. وأوقدت ناراً.. وبدأتُ أقرأ.

ركضت على الحروف المشتعلة كأنني أركض على جسر من أعواد الكبريت.. كلما لمست عوداً تفجّر وفجّر غيره..

وحين انتهى الليل شممتُ في حجرتي.. .وفي ثيابي رائحة غريبة.. رائحة امرأة تحترق..

ليس جديداً أن تحترق امرأة في هذا الشرق.. فنصف تراب صحارينا معجون برماد الضفائر الطويلة والنحور المطعونة..

ليس جديداً - في منطق السكين والفأس - أن تُذبح امرأة على سرير ولادتها.. أو سرير زفافها.. فنحن ندحرج رؤوس النساء كما ندحرج أحجار النرد في مقاهينا.. وكما نصطاد العصافير على روابينا..

قبل شهريار، وبعد شهريار، ونحن نغتال العصافير المؤنثة.. نسلخها، ونأكلها، ونمسح بدمائها شواربنا المهتزة كأذيال النسانيس..

لا جديد في تاريخ إرهابنا.

ولكن الجديد أن يثور المذبوح على ذابحه، والقبر على حافره..

الجديد أن يرفض الميت موته، وأن يعض الجرح على نصل الخنجر..

وهذا ما فعلته صاحبة هذه اليوميات..

إنها إحدى المصلوبات على جدار التاريخ والخرافة..

ولكنها تبدو - وهي على خشبة الصَلْب - أكبر من قيدها ومن مساميرها. وأقوى من جميع صالبيها.. إن بطلة هذه اليوميات تعرف أنها تُحتَضر ولكنها - مع دفتر يومياتها - تتفوق حتى على احتضارها.

الموت الصامت هو وحده الموت. أما الذين يثقبون بأظافرهم رخامات قبورهم، ويكتبون شعراً.. على خشب توابيتهم.. فلا أحد يستطيع أن يهزمهم..

وبعد..

فهذه أوراق كتبتها امرأة لا اسم لها.. في مدينة لا اسم لها..

امرأة.. هي الأسماء جميعاً.. والمدن جميعاً..

وأنا لم أفعل لهذه اليوميات شيئاً، سوى أني أخرجتها من مخبئها الحجري.. ومسحت الغبار من أجنحتها.. ومنحتها الحرية.

...نزار قباني



يوميات امرأة لا مبالية

- 1 -

على دفترْ.. سأجمعُ كلّ تاريخي على دفترْ..

سأرضعُ كلّ فاصلةٍ حليبَ الكلمةِ الأشقرْ..

سأكتبُ لا يهمُّ لمن سأكتبُ هذه الأسطرْ..

فحسبي أن أبوحَ هنا لوجهِ البوحِ لا أكثرْ..

حـروفٌ لا مبـاليةٌ أبعثرها على دفتـرْ..

بلا أمـلٍ بأن تبقى بلا أمـلٍ بأن تُنشـرْ..

لعـلّ الريح تحملهـا فتزرع في تنقلهـا..

هنا حرجاً من الزعتر هنا كرماً هنا بيدرْ..

هنا شمسـاً وصيفـاً رائعـاً أخضـرْ..

حروف سوف أفرطها كقلب الخوخة الأحمرْ

لكلّ سـجينةٍ تحيا معي في سجني الأكبرْ..

حروفٌ سوف أغرزها بلحمِ حياتنا خنجرْ..

لتكسرَ في تمرّدهـا جليداً كان لا يُكسرْ..

لتخلعَ قفل تابوتٍ أُعِـدَّ لنـا لكي نُقبرْ..

كتـاباتٍ أقـدّمها لأيّ مهجةٍ تَشـعرْ..

سيسعدني إذا بقيتْ غداً مجهولةَ المصدرْ..

- 2 -

أنـا أنثـى.. أنـا أنثـى..

نـهار أتيت للدنيـا وجدتُ قرار إعدامي..

ولم أرَ بابَ محكمتي ولم أرَ وجهَ حكّامي..

- 3 -

عقاربُ هذه الساعة كحوتٍ أسودَ الشفتين يبلعني..

عقاربها كثعبانٍ على الحائط كمقصلةٍ كمشنقةٍ كسكّينٍ تمزّقني

كلصٍّ مسرع الخطوات يتبعني ويتبعني..

لماذا لا أحطّمها؟ وكلّ دقيقةٍ فيها تحطّمني

أنا امرأةٌ بداخلها توقّفَ نابضُ الزّمنِ..

فلا نوّارَ أعرفهُ.. ولا نيسانَ يعرفني..

- 4 -

أنا بمحارتي السوداء.. ضوءُ الشمسِ يوجعني

وسـاعةُ بيتنا البلهاء.. تعلكنـي وتبصقنـي

مجــلاتي مبعثـرةٌ.. وموسـيقاي تضجرني

مع الموت أعيش أنا.. مع الأطلال والدّمـنِ

جميـعُ أقاربي موتى.. بلا قبـرٍ ولا كفنِ

أبوح لمن ولا أحداً.. مِنَ الأمواتِ يفهمني؟

أثور أنا على قدري.. على صدئي على عفني

وبيتٍ كلُّ مَنْ فيـه.. يعادينـي ويكرهني

أدقُّ بقبضتي الأبواب.. والأبوابُ ترفضنـي

بظفري أحفر الجدران.. أجلدها وتجلـدني

أنا في منزل الأموات فمن من قبضة الموتى يحررني؟!

- 5 -

لمـــن صــدري أنـا يكبــرْ..؟!

لمـن كرزاته دارت؟.. لمـن تفاحه أزهرْ؟!

لمن صحنانِ صينيّان.. من صدفٍ ومن جوهرْ؟

لمن قدحان من ذهبٍ.. وليس هناك من يسكرْ

لمـن شـفةٌ مناديـةٌ.. تجمّدَ فوقها السّكـرْ؟

أللشـيطان للديـدان.. للجـدران لا تُقهرْ؟

أربّيها وضوءُ الشمسِ أسقيها سنابلَ شعري الأشقرْ

- 6 -

خلوتُ اليوم ساعاتٍ إلى جسدي.. أفكر في قضاياهُ

أليسَ له هو الثاني قضاياهُ؟ وجنّتهُ.. وحماهُ؟

لقـد أهملتـهُ زمنــاً.. ولـم أعبـأ بشـكواهُ

نظرتُ إليهِ في شغفٍ.. نظرتُ إليهِ من أحلى زواياهُ

لمسـتُ قبابـهُ البيضـاء وغابتـهُ ومرعـــاهُ

أنـا لـوني حليبـيٌّ كأنّ الفجرَ قطّـرهُ وصفـاهُ

أسـفتُ لأنّه جسدي.. أسفتُ على ملاستهِ

وثرتُ على مصمّمهِ.. وعاجنـهِ وناحتـهِ

رثيتُ له لهـذا الوحش.. يأكلُ من وسـادتهِ

لهــذا الطّفــلِ ليسَ تنــام عينـــاهُ

نزعتُ غلالتي عنّي رأيتُ الظلّ يخرجُ من مراياهُ