الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٦:١٠ مساءً

أمة تغتال نفسها!!

علي الذهب
الاثنين ، ٣١ اكتوبر ٢٠١١ الساعة ٠٦:١٠ مساءً
أجزم أن الكثير من المهتمين بشأن ما يجري في ساحتنا اليمنية خاصة والعربية عامة يشاركونني في تساؤلاتي القلقة التي تدفعني بقوة لطرق هذا الباب، والولوج منه لتأمل عالم من العداء والتآمر والخساسة والنفعية والمتاجرة بتطلعات الشعوب المقهورة من حكامها الذين أرهقوها جورا وجهلا وخذلانا، وجازوها بأسوأ ما يجازى به، وقد التقوا جميعا-أعداء الأمة وحكامها- حول موائد المصالح الرخيصة، فغدت بين عدو يتربص بها وابنٍ عاق يؤثر مصالحه على مصالحها وهو يحسب أن صراخ رعيته خروج عليه.

ليتأمل معي الجميع في خارطة ما يعرف بالشرق الأوسط، من حافة الأطلسي غربا إلى حافة الهندي شرقا، سنجد أن هذه المساحة الغنية بكل الموارد الاقتصادية والصناعية والبشرية، هي ميدان صراع عالمي متواتر منذ قرون، وهو واقع يستوجب التكيف معه، وتطويعه وفق أسباب القوة المتاحة والأهداف النبيلة لكل قطر أو أمة تقع داخل محيطة، وقد كان للعرب في جاهليتهم وفي الإسلام مواقف ووقائع معروفة مع غيرهم من الشعوب الواقعة داخل هذا المحيط أو خارجه، ذلك أن هذا الميدان لم يخلُ ولن يخلوَ من تَبارٍ مستقٍبلي محموم، ليس بين قطبين فحسب، بل بين أكثر من قطب أو قوة صاعدة، على أي وجهة وتحت أي ذريعة، بل إن ما يجري في نطاقه، يتكرر مكانيا وزمانيا، بما يشبه متتالية حسابية تتواثب بقيم متساوية أو قريبة من ذلك، على رأس كل عقدٍ أو عقدين.
أقول ذلك؛ وأنا أرصد بأسىً الأبعاد التي تحدد المشهد العنيف الذي يغتلي في هذا النطاق الجغرافي من العالم، وأعني بالأبعاد هنا؛ المكان، والزمان، والأحداث، اتكاء على محصلة استقراء للتراث السياسي والاقتصادي والثقافي والعسكري لقرابة قرن من الزمن عاشته هذه المنطقة، منذ دخول العرب مرحلة التحرر من الاحتلال العثماني، الذي دشنته اليمن في شقها الشمالي -ولو شكليا-عبر توقيع صلح دعان عام 1911م، مرورا بحروب ثورات التحرير العربي من الاستعمار، بُعيد الحرب العالمية الثانية 1939-1945م، التي حطت رحالها أواخر الستينات مع استقلال الجنوب اليمني من الاستعمار البريطاني عام 1967م، وأخيرا مع إطلالة ثورات الربيع العربي التي اجتاحت المنطقة مطلع هذا العام 2011م.

لكن؛ هل يحق لنا إزاء هذا الرصد أن نتساءل: لماذا يجري ذلك؟ ولمصلحة من؟ ولماذا نخرج من طموحاتنا في هكذا اصطراع كخروج منتخباتنا الكروية من كل تبارٍ، مثقلة بالهزائم النكراء؟

نحن أمة لديها من الطاقات المختلفة ما يجعلها محل اكتفاء-ولا أقول استغناء- ولكننا لا نحسن استخدام تلك الطاقات، وقد ارتد أغلبها إلى صدورنا كأقوى الأسلحة المدمرة، حين استعان الغرب علينا بنا، وحين اعتقد حكامنا أن انتقالهم إلى كراسي الحكم هو انتقال أزلي لا انتقال مؤقت مبتغاه الأصيل تأدية وظيفة محددة تجاه الأمة التي بوأتهم ذلك على وجه التكليف لا التشرف، فتمسكوا بالكراسي، وأشاعوا الخوف والجهل والتخلف في أوساط شعوبهم، وخدعوهم بقشور الحضارة الزائفة، وجرى احتواء تلك الطاقات وتبديدها، وغدت أسلحة موجهة إلى ذواتنا، سواء كانت طاقة المعتقد الديني أو الطاقات المادية الأخرى؛ البشرية والنفطية، والتاريخية، والطاقة الجيوستراتيجية التي تمسك برقبة العالم كله.

فطاقة الدين؛ وهو موضوع هذه التناولة، حين أسيء استغلالها، جُعل منا أمة إرهابية، تقاتل بعضها بعضا، في أراضيها أو في أراضي غيرها، حتى بلغ شبابنا أن تركوا مقاعد الدرس ومعاقل الصناعة والثغور وانطلقوا تحت ضغط العاطفة الدينية التي حركت كوامن تلك الطاقات، ليموتوا في كابول أو قندهار أو هلمند أو في جبال تورا بورا، وفي كشمير والشيشان، ثم لما قُضي بهم القصد، وُصموا بشر تهمة ابتدعها أساطين هذا القرن من الغرب؛ وهي تهمة الإرهاب، وكان مستودع من بقي من أولئك الشباب معتقل جوانتانامو الأمريكي أو سجون الحكام العرب، الذين دفعوا بهم ذات يوم إلى هذا الخضم.

ثم أننا نحن العرب، كغيرنا من الأمم، نتوجس بفعل تجارب الماضي من كل بادرة تهدد هذه الطاقة، ونتمزق فيما بيننا قبل أن نستعد للمواجهة، وعلى ذلك كانت مواجهاتنا للحملات الصليبية التي اجتاحت أطراف الشمال العربي، في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي والقرن تلاه، إذ كانت تلك المواجهات تراوح بين الظفر والفشل. وعلى الاتجاه الشرقي أخذ التفوق الإيراني الحديث يشعرنا بالقلق والبغض، وقد ساعد على استفحال هذا القلق في ذواتنا، الحكام وعلمائهم من ذوي الغلو والتظرف في كلا الطرفين، الذين ينظرون للمستقبل بعين الماضي المثقل بالمواجع بين الشعوب، ولذلك نجد أنه مع بزوع الثورة الإيرانية عام 1979م، كان قد أشاع المتربصون بالإسلام أن الخطر الإيراني لم يعد خطرا واحدا، فقد جاء خطر الصفوية مشفوعا بخطر التفوق التقني والعسكري، مع اجترار كل ظرف دامٍ لماضوية الأحداث بيننا وبينهم، وأضحت دول الخليج العربي بما تملكه من قوة وما تعانيه من ضعف أيضا، بؤرة جذب واصطراع لكل ذي غاية، باسم الحق التاريخي، والثروة، والسلم الدولي، والدين أيضا. تعالوا معي ننظر إلى صورة المتتالية الحسابية من الصراع التي أشرنا إليه في صدر المقالة.

في نهاية العقد السابع من القرن الماضي كان الخليج على موعد مع ثورة إسلامية شيعية وصف موطنها الجغرافي فيما بعد بأنه أحد أضلع الشر أو محاوره، وبذلك أصبحت إيران-أو هكذا أريد- أخطر على العرب من إسرائيل التي تحتل جبهتهم الأولى نحو أوروبا، فجرى استثارة كلا من: العراق وإيران، وجرهما إلى اصطراع بالإنابة عام 1980م، وفي قفزة عِقْدية أخرى استُحث العراق لاقتراف غزو غير منطقي ضد الكويت مع تمام العقد التاسع؛ أي عام 1990م، ثم مع بروز ملهاة الطالبان في أفغانستان جُمع كل الخصوم الدينيين والاستراتيجيين للغرب إلى محراقٍ كبير على امتداد سنوات ذلك العقد، ثم انتقل رعاة البقر بمفردهم -وقد ترنح الدب الروسي- وفي خيلاء المنفرد بالساحة- إلى مقديشو، لكن ذلك الزهو خبا حين لم يُلقِ أحدٌ من الأعوان بالا، وقد حطوا على خرابة يسكنها أشباح الموت، فخرجوا منها مثقلين بالهزيمة عام 1994م، ومع بلوغ الألفية الثانية عامها الأول كانت بدعة تدمير برجي منهاتن في سبتمبر 2001م، فانتقلت المعركة إلى كابول مرة أخرى، حيث كُسرت الأيدي التي كبحت جموح الدب الروسي، ثم جاء دور شقيق الحلفاء؛ العراق، فكانت المعركة صليبية بإفصاح الرئيس الأمريكي بوش الابن، وسقط العرب حقّ سقوط، مع دخول الأمريكان بغداد عام 2003م.

وهنا؛ ما هي العبرة من سرد هذه الإشارات التاريخية الطويلة؟ ولماذا أطال كاتب هذه السطور في هذا الطرح؟ إن جزءا من هذه المنطقة تعيش حالة من استعادة للوعي، في ربيعٍ ثوري عارم، رجاله الحقيقيون في ربيع أعمارهم، وهذا الوعي تبرعم من وجع السنين التي أدمتهم، حين غيب فيها الحكام دور أمتهم، فقهقروها إلى ذيل الركب، وغدت أضعف حالا من أي عهد مرت به على امتداد تاريخها، مع ما تملكه اليوم من أسباب القوة المتعددة، ولذلك ينبغي أن لا يقع الشباب العربي الثائر في قبضة الغرب المتربص ورجاله الخُنَّع، وهو يمد أيدي العون والمساندة التي سيكون ثمنها حريتنا وحرية أبنائنا من بعدنا، حيث يغدو الدخيل هو صاحب الدار والمتصرف فيه، ونغدو نحن الغرباء في أوطاننا، وها قد بدت أمارات ذلك في مشاهد تقسيم غنيمة النفط والأرض في ليبيا، بين أصدقاء المصالح الذين شاركوهم الإطاحة بعرش جمهوري دام أكثر من أربعة عقود.