الخميس ، ١٨ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٦:٥٩ صباحاً

التراث الإذاعي لعدن .. الكنز المهدور

نجيب محمد سعيد
السبت ، ١٥ نوفمبر ٢٠١٤ الساعة ١١:٠٠ صباحاً
المكتبات بأنواعها المقروءة ،المسموعة ، والمرئية ، تمثل في أي بلد من البلدان ذاكرة وطنية مهمة بما تحتويه من كنوز توثق لتاريخ ومسيرة حياة الشعوب والأمم .

وتعدُّ المكتبة الإذاعية لإذاعة عدن العريقة التي أنشئت عام 1954م من أغنى المكتبات التي تحتوي على آلاف الأشرطة التي تضم مواد إذاعية نادرة من تسجيلات لبرامج مختلفة وأعمالا درامية وأعمال موسيقية وغنائية ، وهي بحق تراث ثقافي وإنساني يضم أهم الوثائق السياسية منذ إنشائها قبل الاستقلال وما بعد الاستقلال حتى العام 1990م ، كما تضم أشرطة نادرة لبرامج ثقافية وأدبية وعلمية وكنوزاً من الأعمال الإذاعية النادرة بما في ذلك الكنوز الغنائية والموسيقية لعدن ولكل مناطق اليمن والجزيرة والخليج العربي ،سيما المكتبة الموسيقية التي عدّت من أغنى المكتبات في التنوع الموسيقي والغنائي ..

لكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو : هل ما تزل إذاعة عدن ومكتبتها تحتفظ بتلك الكنوز وذلك التراث الإذاعي الجدير بالاهتمام ؟ وما مصير ما احتوته تلك المكتبة الإذاعية من ثروة وكنوز إبداعية والتي لا تقدر بثمن ؟؟ الجواب : نعم ما تزل إذاعة عدن تحتفظ بتلك الكنوز.. لكن القليل منها فقط ، فخلال العقدين الماضيين شهدت المكتبة الإذاعية تدريجياً إهمالاً واضحاً ، وتدميراً ملفتاً للنظر، في سياق ما تعرضت له الإذاعة برمتها من اهمال وتدمير وسوء قيادة وإدارة ، ولاشك أن هناك عوامل أخرى ساعدت على ذلك تعود في معظمها إلى غياب تطبيق مبدأ ( الشخص المناسب في المكان المناسب ) وحالة العشوائية واللامبالاة التي عاشتها وتعيشها الإذاعة إلى اليوم لضعف كفاءة قيادتها وادارتها ، في ظل وضع سلبي عام في غالبه ، وبيئة مشجعة للفساد عاشته وتعيشه مؤسسات الإعلام الحكومية كافة ، والوزارة المعنية بتلك المؤسسات، فبالرغم من التحسّن النسبي جداً في موازنات بعض المؤسسات الإعلامية ومنها المؤسسة اليمنية العامة للإذاعة والتلفزيون والأجهزة التابعة لها ، إلاّ أن هذا الأمر لم ينعكس ايجاباً على تطوير وتحديث تلك الأجهزة ، ومنها إذاعة عدن وانتشال وضعيتها وتوفير الامكانات لتحديث مرافقها واداراتها بما في ذلك مكتبتها الإذاعية وارشيفها الصحفي ، وتحسين وضع كادرها الفني والمبدع ،بل أن هذا التحسن النسبي زاد من شهية المتطفلين على العمل الإعلامي والمحسوبين عليه من الادارة المالية والادارية في المؤسسة والإذاعة ، التي اصبحت قوامها بإداراتها ومسمياتها المختلفة في تضخم مستمر، وبالتالي منحت نفسها بطرق مختلفة فرص الاستحواذ على مخصصات مالية والتلاعب بها في شئون لا معنى لها في ظل وجود ثغرات ومنافذ ملتوية في النظام المالي والاداري برمته ، على حساب العمل الإعلامي الابداعي وتحديثه وتطويره ..


وفي ظل هكذا وضع وفي ظل استمراره ، ومع تضييق الخناق على المبدعين والفنيين وحرمانهم من بعض حقوقهم المالية، وهم الذين يعملون نهاراً وليلاً بحقوق منقوصة ويتساقطون واحداً تلو الآخر، فقدت الإذاعة على مدى اكثر من عقدين من الزمن بسبب الوفاة والتقاعد والتهميش خيرة كوادرها ، وفقدت الكوادر الأخرى الباقية الأمل في تصحيح الوضع السائب والمتردي للإذاعة ، وأصيبت بحالة من اليأس والاحباط ، بينما حلّت في الصدارة كوارث أخرى ، عفواً كوادر اخرى طفيلية على العمل الاذاعي ،فأعيَتْ الحماقَةُ إذاعة عدن وأفقدتها عراقتها، وجرّدتها من كل إبداع حقيقي ودور ريادي في مسيرة الإعلام اليمني ، وهو الدور الريادي الذي عُرف عنها منذ انطلاقتها قبل ستة عقود ، فقد كانت طيلة العقود الأربعة الأولى من عمرها مدرسة إعلامية كبيرة احتضنت قدرات وكفاءات إعلامية بارزة ، وتعمّلق فيها رواد ومبدعين أفنوا جل حياتهم العملية من أجل أن تبق عدن الإذاعة الرائدة على الدوام ،لكن ريادة وإرث عدن الإذاعة ودورها أنحسر شيئاً فشيئاً خلال العقدين الأخيرين وحتى اليوم ، وانتكست وفقدت بريقها ، بفعل تنصيب المتطفّلين لقيادتها والحُمْق الذي أصابها ، فكَسَدَتْ ووهنت حتى أصبحت اليوم تُعيَي مَن يحاول أو يدعو إلى مُداويتها ، فالحمقُ .. هذا الداءٌ العُضال قد سيّطر على جميع مفاصلها ، ولم تعد قادرة على الحركة إلى الأمام ، بل النكوص والحبو إلى الخلف ، ولعّل المتابع لمسيرة إذاعة عدن وما آلت إليه اليوم يدرك هذه الحقيقة المرة ، فقد بُليّت الإذاعة في ظل الوضع الرديء والمؤسف بحُمْق اعتلوا إدارتها وقيادتها ، وكان لهم السبق والريادة في إعيائها ،حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم ، ويكفي لتبيان هذه الحقيقة المؤلمة أن نكتف بذكر دليل واحد فقط يبرّهن على صدق ما نقول دون أن نُوغل في ذكر بقية الدلائل الأخرى ،وما أكثرها ، وهذا الدليل يتعلق فقط بما وصلت اليه قدرة إرسالها الإذاعي من تدهور، إضافة إلى ما وصلت اليه مكتبتها الصوتية وأرشيفها الصحفي من تدهور وضياع، أمام مسمع ومرأى الجميع وبالأخص - مسئولي الإذاعة – الذين أصبحوا خير من يُبدع في سبيل الوصول بالإذاعة العريقة إلى الوحل ..


إنها صناعة حُمْق بامتياز، فعلت فعلها في هدم كل ما هو إبداعي وجميل ، وغدت المعّول المطلوب كما يبدو للإجهاز على ما تبق للإذاعة من إبداع ومبدعين ، ولقد بلغت درجة الحمقُ أعلى مستوى لها بجدارة فيما يتعلق بأرشيفها الصحفي القديم الذي أصبح خطراً على العاملين فيه ولم يحظ قط بالاهتمام وتحويله إلى أرشيف رقمي وهو أمر مقدور عليه وطالب به البعض أكثر من مرة ،والمضحك أن العمل في هذا الأرشيف ما يزل قائماً بالطريقة التقليدية ، وبطريقة عكسية ، فتحفظ الأخبار والمعلومات المستخرجة من أجهزة الكمبيوتر المرتبطة بشبكة الأنترنت في ملفات ورقية؛ في أروع ابتكار للأرشفة الحديثة لحمّق الإذاعة وقيادتها التي طلبت في يوم من الأيام كاميرا مراقبه خشية تعرض الملفات القديمة السامة والتالفة وغير النافعة في الوقت الراهن للضياع !! ..

ومع ذلك كله يظل الأمل يراود محبي الإذاعة وعشاقها من مبدعيها أن تلتفت وزارة الإعلام ممثلة بوزيرها الجديد ،والجهات ذات العلاقة إلى معالجة الوضع غير المرضي في الإذاعة ، وانتشالها من وضعيتها الراهنة، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه ، وتوفير الإمكانات الفنية للحفاظ علي التراث الإذاعي الكبير لمكتبتها الإذاعية لتستفيد منه الأجيال المقبلة، ويحذونا الأمل أن ترى الإذاعة في قادم الأيام خطة طموحة لتصحيح أوضاعها ، بما في ذلك قدرتها الإرسالية وأوضاع مكتبتها ونفض الغبار عن كنوزها القديمة وتجديدها، وهو المشروع الحُلم الذي طالما غُضّ الطرف عنه طيلة السنوات الماضية ، في ظل تخاذل وعدم مبالاة قيادتها وقيادة المؤسسة ووزارة الإعلام .. والله من وراء القصد ..