الخميس ، ٢٥ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ١٢:١٥ صباحاً
التواجد العثماني في اليمن .. نواة نهضة محاها الأئمة
مقترحات من

التواجد العثماني في اليمن .. نواة نهضة محاها الأئمة

> ظل تاريخ العثمانيين في اليمن مشوهاً حتى اليوم في الذاكرة الجمعية لليمنيين، بسبب ما كتب عنهم الأئمة من تكفير وتشويه، حاشدين اليمنيين لمقاومتهم تحت مظلة التكفير الطائفي التي أطلقها عليهم الأئمة في التاريخ الحديث، وما كتبه مؤرخوهم ضد التواجد العثماني في اليمن، في محاولة لطمس الصورة الإيجابية للعثمانيين في اليمن، حتى تظل الصورة الإمامية هي المقدسة في نظر الشعب اليمني ليسهل انقيادهم للأئمة. وهناك من كتب بإنصاف عن التواجد العثماني في اليمن، مبرزاً بعضاً من صورهم المشرقة، ورغم هذا وذاك، فقد ظلت المعالم والإنجازات العثمانية في اليمن هي الشاهد والصورة الحقيقية لحقبة العثمانيين في اليمن.
 
وعلى الرغم من أن تمدد الدولة العثمانية إلى اليمن جاء مثل تمدد الأمويين والعباسيين كامتداد طبيعي لنظام الخلافة الإسلامية الذي كان معمولاً به في السابق، مما يتطلب حكم المركز لكافة أجزاء العالم الإسلامي، إلا أن هناك من السلبيات المرافقة للحكم العثماني ما يرافق حكم أية دولة أخرى حتى لو كانت محلية، ففي عام 945هـ وصلت طلائع جيش العثمانيين إلى جزيرة كمران وسواحل المخا وعدن لملاحقة الغزو البرتغالي للثغور الإسلامية ومحاولتهم الوصول إلى المدينة المنورة لنبش قبر الرسول – صلى الله عليه وسلم – والاستيلاء على مقدسات المسلمين مكة والمدينة.
 
كانت الخلافة الإسلامية قد آلت إلى العثمانيين بعد العباسيين، وبهذه الصورة فقد أصبحت البلاد الإسلامية تحت نفوذ الخلافة العثمانية والتي يلزمها حماية ثغور الدولة الإسلامية وحدودها.
 
أرسلت القوات الإسلامية العثمانية إلى اليمن باعتبارها من منظور عاصمة الخلافة حزاماً أمنياً للحرمين الشريفين، إذا ما سقطت فإن بسقوطها يسقط الحرمان الشريفان، من هنا كان مجيء العثمانيين لليمن حينما تعرضت سواحله لغزوٍ واحتلال صليبي أوروبي قاده الأسبان والبرتغال – خصوصاً – بعد قضائهم على المسلمين في الأندلس (اسبانيا والبرتغال) 1492م، وأقسم ملكهم ليرفعن الصليب في سماء (مكة) وينبشن قبر (محمد) في المدينة، ويثأر بذلك لفتح المسلمين العثمانيين للقسطنطينية عاصمة أوروبا الشرقية المقدسة (فتحت 1453هـ).
 
وفعلاً وصلت قوات البرتغال واحتلت (عدن) وجزر البحرين العربي والأحمر بل ووصلت طلائعها إلى (جدة) في بلاد الحرمين، عندها استغاث أهل اليمن بالخليفة العثماني سليمان القانوني الذي هب لنجدة المسلمين في اليمن وحماية مقدساتهم فأرسل أول جيش إسلامي إلى اليمن عام 945هـ الموافق 1538م، وكانت من النتائج التي حصدها هذا الجيش أن استعاد تلك المناطق، ودحر العدوان الصليبي البرتغالي مهزوماً من تلك المناطق، وبذلك أصبح المحيط الهندي والبحرين العربي والأحمر بحيرات إسلامية خالصة، ولم يُبارح العثمانيون مواقعهم تلك إلا بعد مائة عام (945هـ – 1045هـ)، حين تأكد لهم خلالها زوال الخطر الصليبي الأوروبي عن اليمن، والمقدسات الإسلامية، وأمام ضربات التمرد اليمني ضد الدولة العثمانية باعتبارها احتلالاً، و(كافراً يجب مقاومته) بحسب فتوى الأئمة.
 
في تلك الأثناء كانت الدولة اليمنية قد سقطت بيد الإمامة والمماليك الجراكسة الذين استعان بهم الإمام شرف الدين لإسقاط الدولة الطاهرية (السنية) كما استعان الشيعة في العراق على إسقاط دولة الخلافة العباسية بالتتار بقيادة ملكهم هولاكو. وحينما سقطت الدولة الطاهرية واستولى الأئمة على معظم القطر اليمني، حكمها الأئمة حكم المنتقم وليس حكم ابن البلد الحريص على بناء بلده، حيث عاث القائد العسكري للإمام شرف الدين؛ وهو ابنه المطهر، في البلاد الفساد من القتل والتدمير وانتهاك الحرمات ومخالفة كل حدود الشريعة في السلم والحرب.
 
لم يكد الأئمة يهنؤون بملك اليمن حتى وصلت الجيوش العثمانية لحكم اليمن ولحراسة الحرمين، باعتبار اليمن الحزام الأمني للحرمين الشريفين، ومن هنا بدأ الأئمة يشوهون الوجود العثماني في اليمن، في نظر اليمنيين تمهيداً لمقاومته، فاتهموا العثمانيين بالكفر والاحتلال، وشوهوا صورتهم لتأليب اليمنيين عليهم ومقاومتهم ومحاولة إخراجهم من اليمن.
 
ثلاثة إنجازات استراتيجية للعثمانيين في اليمن
ورغم التاريخ المشوه الذي سطره الأئمة ضد خصومهم العثمانيين، إلا أن المتأمل والمتعمق المنصف في دراسة إنجازات التواجد العثماني في اليمن، سيجد أن العثمانيين – على المدى البعيد الاستراتيجي – حققوا لليمن أهم ثلاثة إنجازات رئيسة، وهي:

      أولاً: دحر العدوان والطامعين عن اليمن:
لقد كان التوسع الإمبراطوري البرتغالي والإنجليزي على أشده وتهديده لليمن لم يعد خافياً أو نظرية مؤامرة، بل لقد وصل سواحل اليمن محاولاً غزوها في عدن وكمران والمخاء، وجدة، كمحطة أولى للغزو يتمدد بعدها إلى مكة والمدينة لهدم الكعبة ونبش قبر الحبيب المصطفى – صلى الله عليه وسلم. ومع أن دولة الأئمة كانت وليدة بعد إسقاطهم الدولة الطاهرية فإنها لا تمتلك الإمكانات لصد عدوان إمبراطوري بحجم البرتغال وإنجلترا، فكان أن تصدت الخلافة العثمانية لذلك الغزو الأوروبي، والفضل يعود إليهم بعد الله في منع أولئك الغزاة من تحقيق أهدافهم وإذلال اليمن ونهب خيراته بل حتى وتغيير هويته وعقيدته.

      ثانياً: حماية وتحصين المدن والجزر اليمنية:
كما أن دولة الخلافة قد قامت بحماية ثغور اليمن وتحصين مدنها الساحلية والداخلية وكذا تحصين وحماية الجزر اليمنية المختلفة وأقامت في كل مكان منها المنشآت العسكرية الضخمة والآثار المتبقية إلى اليوم تشهد بعظمة وقوة و إخلاص تلك الدولة لليمن.
 
لقد أولت الخلافة العثمانية اهتماماً خاصاً باليمن لم تكن لغيره من الأقطار والشعوب العربية والإسلامية الأخرى، باعتبارها السياج الأمني الأول للمقدسات الإسلامية والحرمين الشريفين، ومن هنا كان الاهتمام باليمن.
 
فعمل العثمانيون تلك التحصينات العظيمة الموجودة في المدن الساحلية وجزر البحرين العربي والأحمر أمثال الأسوار والقلاع الضخمة في مدينة عدن وباب المندب والمخا وزبيد والحديدة وكمران واللحية وميدي وعسير وكافة المدن الساحلية والجبلية، والتي لا تخلو مدينة أو منطقة هامة في طول اليمن وعرضها إلا وبها منشأة أو أكثر؛ أنشأتها أو جددتها دولة الخلافة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: تلك المنشآت العظيمة الموجودة داخل مدينة صنعاء، وعلى رأسها ما كان يعرف بالعرضي، المسمى حالياً مجمع الدفاع الكائن أمام السور الجنوبي لمدينة صنعاء بباب اليمن الذي كان مقراً للقيادة في الجزيرة العربية، والذي قلما يوجد له نظير، كما كان مقراً للجيش العثماني السابع في كافة البلدان العربية والإسلامية الأخرى.
 
      ثالثاً: توحيد اليمن كاملاً تحت قيادة موحدة:
كانت اليمن تقسمت بعد إسقاط الدولة الطاهرية بين الإمامة والمماليك الجراكسة وبقايا الطاهريين، وبعض المدن استقلت بنفسها، والعدوان الخارجي متربص بها. ومن الأشياء المهمة التي قامت بها دولة الخلافة العثمانية هي توحيد اليمن وضم أجزائه التي كانت مبعثرة ومجزأة بين الأئمة والمشيخات المختلفة والتي جعلت منه كيانات هزيلة متناحرة فيما بينها وتعمل كل منها على إباحة دماء بعضها البعض وأزهقت في سبيل ذلك دماء اليمنيين واستبيحت أموالهم وأعراضهم، فهيأ الله هذه الدولة التي بسطت العدل والأمان، عدا بعض الأوقات النادرة التي كانت تحدث فيها بعض الحوادث لذلك من قبل الأئمة المتنافسين وغيرهم.
 
تنمية وتطوير المدن
كان للعثمانيين دور بارز وواضح في نمو وتطور المدن اليمنية بشكل عام، ومدينة صنعاء بشكل خاص، حيث حرص العثمانيون – إلى جانب تثبيت النظم الإدارية والمدنية والعسكرية – على إنشاء المعالم المعمارية والإنشائية ومنها الحصون والقلاع والمساجد والقباب والثكنات العسكرية وتمهيد الطرق وبناء الحمامات البخارية وبناء المنازل ذات الطراز التركي، وبدأت الأبنية في الظهور والتوسع خارج أسوار المدينة القديمة في صنعاء، كما هو مجمع العرضي الحالي، وأضاف العثمانيون أحياء جديدة غرب المدينة مثل حي البستان (بستان السلطان)، وحي النهرين، اللذين شكلا نمطاً معمارياً متميزاً بالنوافذ البارزة من غير العقود، وغرس الحدائق والبساتين المميزة أمامها نوافير المياه، كما زاد الاهتمام بحفر الآبار وتزويد النوافير بالمياه وكذلك لري تلك الحدائق.
 
ورغم حالة عدم الاستقرار العثماني في اليمن إلا أنهم عملوا على إدخال المظاهر المدنية الحديثة لليمن المتمثلة في تأمين طرق مواصلاتهم واتصالاتهم، وتعبيد الطرق وإقامة السكك الحديدية والقلاع الحصينة وبناء الفنارات لحماية السواحل، ومد خطوط التلغراف والسلك ووضع القوانين واللوائح التنظيمية الخاصة بالجمارك، وإدخال المطبعة والصحف، حيث أنشئت أول مطبعة في تاريخ الجزيرة العربية الحديث في اليمن في عام 1298هـ – 1881م، وتأسيس إدارة البريد، وتشكيل المجالس المحلية والنيابية، والاهتمام بالصحة والتعليم من خلال بناء المدارس وبعض المنشآت الصحية.
 
وبالرغم من الظروف والأوضاع السياسية غير المستقرة التي واجهت الولاة العثمانيين في صنعاء وغيرها خاصة في الفترة الثانية من حكمهم اليمن، إلا أن والي صنعاء أحمد مختار باشا مثلاً، الذي تولى ولاية صنعاء واليمن عام 1289هـ  إلى 1290هـ – 1872 – 1873م (عاماً واحداً فقط)، فإنه عمل على القيام بعدد من المشاريع والإجراءات والتنظيمات، وأدخلوا بعض الآلات والأجهزة، وأنشئت بعض المشاريع الضرورية كشق الطرق وبناء القلاع والحصون والمباني الحكومية الرسمية، واستحداث أعمال وأمور جديدة مثل فرض نظام المحاسبة المالي والإداري، ووضعت أول خريطة سياسية لليمن – إلى حد ما من الدقة – تم فيها تعريف اليمن تعريفاً سياسياً دقيقاً إلى حد ما، وتم تقسيم اليمن إلى متصرفيات وإلى أقضية على رأس كل قضاء قائم مقام، وتم في عهده (أحمد مختار باشا) افتتاح طريق ممهدة من الحديدة إلى صنعاء، وتأسيس البريد الحكومي في صنعاء وشهارة وصعدة.
 
وفي عهد أحمد أيوب باشا الذي تولى حكم صنعاء من1290هـ – 1293هـ- 1873- 1876م، تم بناء مستشفى عثماني عسكري في صنعاء، وكذلك العديد من الإنشاءات الأخرى، وفي عهد المشير مصطفى عاسم باشا 1293 – 1295هـ – 1876 – 1878م، أنشأ الطرق والمعابر والكُتّاب (مدارس ابتدائية) والرشدية (الإعدادية) والإبتدائية، وحرص على ترميم جامع البكيرية، وقد وضعت في عهد هذا الوالي أول خريطة وصفية مفصلة لمدينة صنعاء القديمة عام 1294هـ. وفي عهد الوالي محمد عزت باشا 1299هـ – 1302هـ  1881- 1884م، تم إنجاز أهم منشأة عسكرية للحكم العثماني في اليمن، وهو مبنى مجمع العرضي خارج سور صنعاء القديمة، وبني كثكنة عسكرية بأمر من السلطان عبدالحميد الثاني سنة 1301هـ. وتعود تسمية العرضي إلى كلمة (أوردو) وتعني باللغة التركية (الجيش) (أمة العليم قاسم الثور – جامعة صنعاء- الولاة العثمانيون وأبرز إنجازاتهم الإنشائية).

بناء المدارس ونشر التعليم
اشتهرت الكثير من المدارس العثمانية في اليمن وخاصة في صنعاء وتعز والحديدة وعسير. ومن تلك المدارس خمس مدارس للصناعة ولتعليم الأيتام والبنات في صنعاء وأبها عسير، ومدرسة عسكرية للتعليم العسكري الإعدادي في صنعاء، وكانت هذه المدرسة تؤهل الطالب إلى الكلية الحربية بجامعة الاستانة، كما أقاموا مدرسة صناعية في الحديدة. ومن تلك المدارس أيضاً مدرسة أنشأها الوالي أزدمر باشا في حي باب شعوب، التي سميت باسم “مدرسة ابن الأمير الصنعاني” سنة 956هـ، ثم بنى جامعاً يسمى جامع الزمر، ثم بنى خاناً للمسافرين قرب المدرسة، وصار هذا الحي اليوم يعرف باسمه وهو (حي الزمر).

أما الوالي مراد باشا الذي تسلم ولاية اليمن عام 984هـ، فقد كانت له العديد من المنجزات، منها: عمارة وترميم أجزاء من الجامع الكبير بصنعاء، وإصلاح المنبر الخشبي للجامع، وبناؤه جامعاً داخل قلعة صنعاء الذي يسمى اليوم بقصر السلاح، والجامع يطلق عليه جامع المرادية، واستخرج غيل ماء من أسفل جبل نقم وجعل جريانه إلى داخل القلعة والجامع، واشتهر الغيل بغيل الباشا. ثم أنشأ الإنشاءات المعمارية خارج أسوار مدينة صنعاء القديمة.
 
كما قام هذا الوالي، الذي يعد من أفضل وأعدل الولاة العثمانيين على اليمن، بعمل إضافات وتوسيع جامع الشيخ أحمد بن علوان في يفرس من محافظة تعز، وأوصى بوقف دائم على هذا الجامع، وابتنى سمسرة عظيمة في مدينة تعز شرق سوق الملح وأوقف عليها دكاكين وبيوت وبساتين، كما قام واليه على تعز، الأمير علي بك، ببناء سمسرة شرق مدينة تعز على يسار الداخل من على الباب الكبير، وجعل فيها أربعة وستين مسكناً دورين؛ الدور الأسفل مخازن، والدور الأعلى مناظر ورواشين، ومن عائداتها يتم شراء ثياب لتكفين موتى الفقراء والمساكين.
 
أما الوالي سنان باشا الذي تولى الحكم في اليمن عام 988هـ، فكان من أشهر أعماله بناء قبة البكيرية شرق مدينة صنعاء القديمة التي تعتبر اليوم من أعمدة الآثار الإسلامية التركية في صنعاء ومن أشهر جوامع صنعاء العامرة، ثم عمل قبة كبيرة على قبر الصحابي الجليل فروة بن مسيك المرادي، الذي يعرف حي فروة بن مسيك شرق وشمال مدينة صنعاء، كما أقام خاناً للمسافرين جوار هذا الجامع ليكون وقفاً للجامع. كما شيد خاناً للمسافرين بين مدينتي جبلة وإب.
 
وبالإجمال فقد اهتم الأتراك بالأعمال الإنشائية المختلفة وأهمها الإنشاءات الإسلامية كبناء المساجد والمدارس والخانات للمسافرين وبناء واستخراج الغيول وحفر وبناء الآبار والبرك والمآجل المائية، وترميم الإنشاءات العسكرية، وبناء المدن الجديدة، وترميم أسوار المدن القديمة، وإحياء الأوقاف وترميم المساجد والمعالم الأثرية وتوسعتها وحفظها من التلف، في الوقت الذي كان الأئمة وولاتهم وعمالهم يعملون على تدميرها ومحاولة طمسها.
 
إستفاد اليمنيون من مدارس الأتراك المختلفة، وتخرج منها الكثير ممن كانوا هم رجال الحكم والإدارة والتعليم والجيش في عهد الإمام يحيى، حيث كان بإمكانه أن يتعهد تلك البذور بالرعاية والنماء، وأن يستفيد أكثر من المواهب والاستعدادات والخبرات التي كان الكثير من اليمنيين قد تعلموها في المدارس العثمانية أو من الاحتكاك برجالها.
 
بناء الطرقات والسكك الحديدية
في مجال الطرقات، كان الأتراك قد بدؤوا بشق الطرقات في بعض المناطق الجبلية، ولكن عدم الاستقرار حال دون اكتمال شيء منها بصورة تامة.
 
كما بدؤوا بشق سكة حديد من رأس الكثيب في الحديدة وحتى منطقة باجل ولمسافة حوالي خمسين كيلو متراً، وسارت أول قاطرة فيها في حفل افتتاح رسمي حضره الوالي العثماني وكبار رجال الولاية ورجال السلك القنصلي، باعتباره أول مشروع هام وحيوي في حياة اليمن العمرانية في العهد العثماني الثاني. وكانت قد تعاقدت وزارة الأشغال العامة العثمانية مع شركة فرنسية لمواصلة إنجاز المشروع، وأمر عزت باشا في عام 1911 بالتمهيد للعمل واقتلاع الأشجار في الأماكن التي سيمر بها الخط، ولكن الحرب العثمانية الإيطالية في طرابلس الغرب أدت إلى ضرب الأسطول الإيطالي سواحل اليمن عام 1912م بهدف شغل العثمانيين عن مقاومة إيطاليا في طرابلس الغرب، وتهدمت معدات المشروع، وانسحبت الإدارة والخبراء، ثم أهمل الإمام يحيى الخط الذي تم بناؤه، واقتلع الناس أعمدته لاستخدامها في بعض أغراضهم الخاصة.
 
العثمانيون ومجالات النهضة الحديثة في اليمن
حاول العثمانيون أثناء حكمهم غير المستقر لليمن أن يوجدوا بعض عوامل النهضة المدنية الحديثة في مجالات مختلفة، ومنها:
 
       أ. النهضة في المجال التشريعي والانتخابي:
عرفت اليمن في العهد التركي الحياة الشوروية ونظام الانتخابات والمجالس النيابية والتشريعية منذ وقت مبكر وعلى أرقى المستويات قبل أن يعرفها العالم في حينه، فقد كان في اليمن عدد من المجالس المنتخبة مثل:-
- مجالس البلدية لإدارة شؤون المدن:
وهي مجالس بلدية شعبية في المناطق والمدن الكبيرة تعرف بمجالس الإدارة، وتتكون من ممثلين عن الشعب، ونواب لهم يعبرون عن آرائهم ورغباتهم من خلالها.
 
- مجالس الإدارة في المحافظات: وتختص بإدارة شؤون المحافظة.
 
- المجلس العمومي للولاية:
وهذا المجلس يسمى المجلس العمومي للولاية ومقره العاصمة صنعاء وهذا المجلس يرأسه الوالي، وينوب عنه أحد ممثلي الشعب، وكان عدد أعضائه ثلاثين، وكان المجلس يتمتع بسلطة واسعة كبرلمان مصغر ويفتتح في مواعيد محددة باحتفال شعبي، يلقي فيه الوالي خطبة الافتتاح، كما هو معمول به في البرلمانات على النحو المعروف اليوم.
 
- مجلس النواب الأعلى (مجلس المبعوثان):
وهذا المجلس مقره في عاصمة الخلافة اسطنبول وإلى جانب المجالس السابقة المحلية فقد كان لليمن في هذا المجلس عدد من النواب يتمتعون بالوطنية والكفاءة ويمثلون الشعب اليمني في البرلمان العثماني الأعلى (مجلس المبعوثان) يناقشون القضايا الخاصة بمصلحة بلادهم بل وقد يستجوبون أعضاء الحكومة المركزية بتطبيق العدالة والنهوض بالبلاد إلى المستوى اللائق بها ومحاسبة أي مسؤول محلي إن بدا منه أي تقصير نحو الشعب أو أي مخالفة للقوانين وقد أتاح كل ذلك للشعب اليمني فرصة التعود على الحياة المنظمة وعلى السلطات الشعبية في تلك الفترة.
 
وكانت تؤدي أدواراً مفيدة بالنسبة للمواطنين، إذ أنها كانت الواسطة بينهم وبين الحكام، وقد انتهت هذه المجالس الشعبية في العاصمة وفي المدن الأخرى في عهد الإمامة، التي كانت تقوم على التقليدية البحتة غير المؤسسية كالفقيه وسط تلاميذه في الكتاب، التي عادت لتقبيل الركب مرة أخرى.

      ب – النظام القضائي:
عمل العثمانيون الأتراك على إنشاء نظام قضائي في اليمن ظل معمولاً به حتى اليوم، حيث كانت توجد في الحقبة الأخيرة من حكمهم محاكم متنوعة منتشرة في أرجاء البلاد الواقعة تحت نفوذهم في اليمن من شرعية وتجارية ووطنية أهلية، واستئناف لكل هذه المحاكم، ومحاكم للنقض والإبرام، ونظام نيابات، حيث كان يوجد النائب العمومي (النائب العام) ومركزه صنعاء، ووكلاء النائب العمومي في الألوية والقضوات وأكثرهم ممن تخرجوا من كلية الحقوق بجامعة الاستانة، وبعضهم ممن تدرب في القضاء ورقي في السلك القضائي حتى وصل إلى رئيس محكمة أو رئيس نيابة، أما كبار القضاة ورؤساء المحاكم فقد كانت الدولة تنتخبهم من كبار رجال القانون والتشريع والفقه، وممن يجيدون العربية ويتحلون بالنزاهة والخلق.
 
وبالمقارنة بين هذه المحاكم ومراتب القضاء والتقاضي، وما هو معمول به في عهد الأئمة؛ فإن الأئمة لم تكن لهم محاكمهم المعروفة في التقاضي، بل كانت تسير الأمور بالطرق التقليدية البدائية البحتة، حيث لم تكن هناك لوائح اتهام أو تقاضي، وكان الإمام يتولى كل شيء في الدولة؛ فهو القاضي والمحامي والجلاد، وكانت رؤوس كثيرة يطاح بها بدون محاكمة أو استماع إلى حجة ومنطق.
 
لكنه كان وبحكم طبيعته والمدرسة التي تخرج منها وتربى في كنفها (الحفاظ على القديم)، صار من أنصار القديم ومن غلاته المتعصبين ومن دعاته المتمسكين به، يشد من موقفه ذاك ومن طبيعته بعض أتباعه الذين على شاكلته ممن تربوا على أيديولوجية التعصب الشيعي التقليدي، وأمسك الإمام مع ذلك بزمام الحكم المطلق، وركز كل السلطات في يده، ولم يوافق على قيام نظام نيابي شوروي أو حكم دستوري بشكل من الأشكال، بل ولم يشكل حكومة ذات وزارات لها صلاحياتها بالمعنى المعروف، مما أدى إلى قيام الثورة عليه عام 1948م فيما صار يعرف بالثورة الدستورية.
 
      ج. النهضة في المجال الصناعي:
عرفت اليمن النهضة الصناعية وغيرها في العهود التركية المختلفة منذ دخولهم اليمن عام 945هـ وحتى خروجهم منها عام 1920م، لتبدأ بعد ذلك مرحلة الانغلاق الكبرى التي لم تتعرض لها اليمن من ثلاثة آلاف عام، وبدل أن ينطلق الإمام يحيى من أرضية النهضة التركية لا من الصفر إذا به يعود باليمن إلى العصر الحجري وفرض على اليمن عزلة دولية منقطعة النظير.
 
حيث شهدت اليمن في عصر الخلافة الإسلامية العثمانية نهضة صناعية كبرى في جميع المجالات ووجدت العديد من المصانع التي كانت تعمل بالطاقة الكهربائية (تعمل بالفحم الحجري) ووجدت في تلك المصانع أحدث المعدات والماكنات الضخمة التي لا تزال بعضها موجودة إلى اليوم في أماكن تلك المصانع وبعضها الآخر تم نقله حالياً إلى المتحف الحربي بصنعاء عام 2007م.
 
كما كانت هناك مدرستان فنيتان صناعيتان، ومستشفيات عسكرية، كما يروي الرحالة نزيد مؤيد العظم، ومما يؤسف له أن تلك النهضة الصناعية العملاقة قد توقفت كاملة في العشرينات من القرن العشرين في بداية حكم الإمام يحيى 1918م، الذي لم يستغل تلك النواة الصناعية والنهضوية لينطلق منها بل عمل على محوها. وكان من أهم هذه المصانع والمنشآت العثمانية:
 
1-  مصنع الحديد والصلب الإسلامي بصنعاء: لصهر الحديد والنحاس وصناعة المعدات الثقيلة والخفيفة المختلفة، ومنها صناعة العربات ووسائل النقل المختلفة.
 
2- المصنع الحربي الإسلامي بصنعاء: لصناعة الأسلحة المختلفة الثقيلة والخفيفة وصناعة الذخيرة، حيث كان إنتاج المصنع من الذخيرة في اليوم من سبعة إلى عشرة ألاف طلقة بندقية ومدفعية.
 
3- مصنع قطع الغيار بصنعاء: لصناعة جميع قطع الغيار للمعدات المختلفة مدنية وعسكرية.
 
4- مصانع الغزل والنسيج الكهربائية:
وكانت تقوم بإنتاج عدد من الصناعات المختلفة منها:-
- الصناعات القطنية والصوفية.
- صناعة السجاد الفاخر بأنواعه.
- صناعة كسوة الكعبة المشرفة وتجهيز المخمل اليماني الشريف المتوجه مع الحجاج إلى الأراضي المقدسة في الحجاز.
 
5- المصنع الإسلامي للزجاج:
لصناعة جميع أنواع الزجاج المختلفة الملونة وغير الملونة وصناعة نجفات الإضاءة.
 
6- مصانع الرخام:
لإنتاج جميع أنواع الرخام.
 
7- الطواحين المختلفة:
قامت دولة الخلافة بإيجاد عدد من الطرق الحديثة لطحن الحبوب والغلال بطرق سهلة وميسرة، وليس كما كان سائداً من قبل ومن بعد في عهد الأئمة، حيث أهملت تلك المصانع وعاد الناس للوسائل البدائية، ومما ابتكر من وسائل لطحن الغلال:-
أ- طواحين الرياح الهوائية:
وهذه الطواحين كانت تعمل بواسطة طاقة الرياح والتي تحاول حضارة اليوم الوصول إليها بدلاً عن الطاقة وتوجد في المناطق الجبلية والمرتفعة.
 
ب- الطواحين المائية:
وتوجد في الأماكن التي فيها الغيول والعيون، وهذه الطواحين كانت تعمل بواسطة تدفق المياه من خزانات مخصصة وتنطلق بقوة اندفاع شديد للماء وتحرك التربينات التي بدورها تحرك الطواحين المائية ومنها على سبيل المثال ما كان في قرية حدة القديمة.
 
ج- الطواحين البخارية:
وهذه كانت تعمل بواسطة البخار الناتج عن الطاقة المتولدة من الفحم الحجري، ومنها على سبيل المثال الطواحين المتبقية من العصر العثماني في قصر غمدان بصنعاء إلى اليوم.
 
د- الطواحين المجرورة بالحيوانات، وهذه الطواحين كانت تعمل بواسطة الحيوانات تجرها البغال أو الجمال أو غيرها.
 
8- مصانع وورش النجارة المختلفة: كما وجدت العديد من المصانع وورش النجارة المختلفة والتي كان يتم فيها صناعة   الدواليب والكراسي والمكاتب، والأبواب والشبابيك.
 
د- في المجال العسكري:
عمل العثمانيون على إنشاء مصانع السلاح والذخيرة، كالمصنع الحربي الإسلامي بصنعاء: لصناعة الأسلحة المختلفة الثقيلة والخفيفة وصناعة الذخيرة، حيث كان إنتاج المصنع من الذخيرة في اليوم من سبعة إلى عشرة ألاف طلقة بندقية ومدفعية.
 
أما التدريب العسكري، فإن الوالي إسماعيل حقي أنشأ نظام “الجندرمة” من اليمنيين، وهو نظام الكتائب والانضباط العسكري، وشكل جهازاً لتدريبهم، وأثبت اليمنيون مهارة فائقة في صفوف “الجندرمة”، مما شجع الوالي إسماعيل على محاولة استبدال الجندرمة الأتراك بجندرمة يمنيين، غير أن الباب العالي عارضه في ذلك، وألغى الكتائب التي كان قد شكلها، ثم عزله عن اليمن بسبب ذلك. ومن أهم الشواهد على ذلك الباقية حتى اليوم، تجديد القلاع كقلعة القاهرة بتعز، وتحصينات المخا، والأهم مجمع العرضي في صنعاء الذي لازال يؤدي غرضه العسكري إلى اليوم متمثلاً في وزارة الدفاع اليمنية.
 
هـ – في المجال المالي:
شكل العثمانيون في اليمن نظاماً مالياً استمر في جوهره حتى قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م.
 
حيث أقاموا الدواوين وأنشأوا السجلات المختلفة لدوائر الدولة، وترتيب الأوقاف ومداخيلها ومجالات صرفها، بيد أن الأئمة ورجال دولتهم عملوا على مصادرة تلك الأوقاف وتملكوها وصاروا يمتلكون عقارات صنعاء حتى أثروا بذلك ثراءاً واسعاً استمر إلى اليوم، في حين أن معظم أراضي صنعاء، كما يقول كثير من المؤرخين والباحثين، هي أرض وقف؛ كحدة والسنينة ونقم وغيرها من الأراضي المحيطة بصنعاء القديمة، حتى جاءت الفترة الرئاسية للرئيس المخلوع فقضى على البقية الباقية هو وأبناؤه ومن يواليه من رجال دولته.
 
تكفير الأئمة للأتراك وتشويه تأريخهم
ورغم ما سبق من إنجازات، مع وجود الأدلة القاطعة للأتراك بصلاح عقيدتهم وإقامتهم شرع الله والإيمان به، ولو كان ظاهرياً، من خلال بنائهم المساجد وتعميرها وترميمها وبناء المدارس وتعليم العلم الشرعي، إلا أن ذلك لم يرض الأئمة عنهم وساقوا الفتوى التكفيرية بحقهم وبحق مواطني البلدان التي تواجد فيها العثمانيون، ابتداءً من عند الإمام شرف الدين في القرن العاشر الهجري وحتى عهد الإمام يحيى حميد الدين، في القرن الثالث عشر الهجري، وبينهما كانت أشهر فتوى تكفير بحقهم من قبل الإمام المتوكل إسماعيل بن القاسم.
 
فقد أبدى المتوكل إسماعيل تعصباً منقطع النظير لمذهبه إلى درجة أنه كفر الأتراك وأدخل في حكمهم من والاهم ولو كان معتقده يخالف معتقدهم، فيما عرف بالتكفير بالإلزام؛ حيث أن الأتراك بحسب زعم المتوكل إسماعيل (كفار) والكفار إذا استولوا على بلاد وملكوها، ولو كانت من أرض المسلمين، تعتبر بلاداً كفرية؛ لأن أهلها أقاموا تحت أوامر وقيادة الكفار.
 
وقام بعض علماء المذهب الهادوي بالرد على المتوكل وأوضحوا فساد وبطلان فتواه ورأيه، ومنهم ابن أخيه العلامة والمؤرخ يحيى بن الحسين. لكن الإمام المتوكل رد عليه مصمماً على رأيه التكفير بالإلزام وقال: “إنها أصول معلومة عندنا بأدلتها القطعية، ومدونة في كتب أئمتنا وسلفنا رضوان الله علينا وعليهم، لا ينكر ذلك عنهم أحد ممن له أدنى بصيرة ومعرفة”.(خيوط الظلام – عبدالفتاح البتول – ص199).
كما رد عليه الحسين بن عبدالقادر بن علي بن الحسين بن الإمام المهدي أحمد بن الحسن بقصيدة مشهورة:
قالوا: إمامهم إسماعيل عالمهم ***** أفتاهم بمقال فيه برهان
يقول: أن جنود الترك كافرة ***** دانت لهم من جميع القطر بلدان
إبليس سوّل هذا والنفوس دعت ***** إليه رغبتها فيها لها شان
هذه الخيالات لا تجدي ليوم غدٍ ***** إذا قضى بين أهل الأرض ديان
 
ومن الذين كفروا الأتراك الإمام يحيى حميد الدين، الذي حشد الدعم القبلي لمقاومة الأتراك عبر فتاوى التكفير في حقهم، وقاومهم من منطلق طائفي لا وطني رغبة في حكم اليمن واليمنيين. ولما اتضح زيف ادعائه عليهم وتكفيرهم للقبائل، دخل في مصادمات عديدة مع تلك القبائل، والتي كان من أبرزها قبيلة حاشد وبعض القبائل الأخرى.
 
هوامش البحث:
- الولاة العثمانيون وأبرز أعمالهم الإنشائية في فترتي الحكم العثماني الأول والثاني لليمن (945 هـ 1045هـ / 1538م – 1635م، 1289هـ – 1336هـ/ 1872م – 1918م. لـ أمة الملك إسماعيل قاسم الثور –أستاذ مساعد بقسم التاريخ – كلية الآداب – جامعة صنعاء).
- نهضة اليمن الكبرى في العهد العثماني .. مصانع وسكك حديدية وجسور عملاقة.. علي جار الله الذيب – صحيفة أخبار اليوم.
- التاريخ العام لليمن – للحداد.
- خيوط الظلام – عبدالفتاح البتول.
- المسالك والممالك اليمنية – محمد الكبسي.
- الإحسان في دخول اليمن تحت ظل آل عثمان – عبدالصمد إسماعيل الموزعي.

الخبر التالي : حزب اسلامي مجهول يعاود الظهور بالمكلا وعدن

قد يعجبك أيضا :

انطلاق منصة (مال) للعملات الرقمية المشفرة برؤية إسلامية

الحوثيون يستنجدون باحفاد بلال لرفد الجبهات...ماذا يحدث؟

مصدر ميداني يكشف حقيقة سيطرة الحوثيين على الجوبه!

شاهد الصور الأولية للحوثيين من أمام منزل مفرح بحيبح بمديرية الجوبه عقب سيطرتهم عليها

عاجل...التحالف العربي يعلن تدمر مسيرة حوثية

الأكثر قراءة الآن :

هام...قيادي بارز في المجلس الانتقالي يُعلن استقالته(الإسم)

رئيس مجلس الشورى يحث واشنطن على ممارسة ضغط أكبر على الحوثيين !

منظمة ميون تجدد مطالبتها للحوثيين بفك الحصار على مديرية العبديه

بحوزة سعودي ومقيم...السلطات السعوديه تحبط تهريب شحنة مخدرات ضخمة

الخدمة المدنية تعلن يوم الخميس اجازة رسمية

مقترحات من

اخترنا لكم

عدن

صنعاء

# اسم العملة بيع شراء
دولار أمريكي 792.00 727.00
ريال سعودي 208.00 204.00
كورونا واستغلال الازمات