الجمعة ، ٢٦ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٣:٣٤ مساءً

يومٌ قديم في صنعاء الجديدة

مراد إسماعيل
الجمعة ، ١٨ نوفمبر ٢٠١١ الساعة ٠٤:٤٠ مساءً
في بيوت صنعاء القديمة المتزاحمة حد التلاصق كما لو كانت تستعد لالتقاط صورة جماعية لوسامة بائسة أخطأها الزمان أو هي أخطأت المكان، يتوارث الناس الشوق لدولة حقيقية قال عنها محمد الربادي مخاطباً صالح ذات زيارة له إلى إب "أريد دولة تصون عرضي، ولأُقطَع من نصفي"، ذهب الربادي كله و ما رأى الناس نصف دولة حقيقية، غير حروب "البهررة" وسياسات "الصوملة"، و فوق هذا الغَم و ذاك الغِل يريدون البقاء على الأشلاء، يريدون صنعاء سنبلة يابسة منزوعة الذُرة، لتعيش اليمن خريفاً أبدياً!.

من جديد و لسوء الطالع تشهد صنعاء إخفاق السياسة، كلما كانت قِبلة للحلول كلما تعلقت بها المشاكل متنكرة بزي حلول!، أتذكر أبي و هو يقول غير مرة: لا أكون في صنعاء إلا مُجبَرَاً، لستُ فيها غير عابر سبيل، أو مراجع داهمه الليل، أو مجيب دعوة صديق أو قريب، ينفق وقت الإجابة بالنظر محدقاً في ساعة يده قلِقاً ينتظر المغادرة أو يستدعيها لإنقاذه من قلق المساء في صنعاء، حيث يتأخر الصبح كما لو أنه لن يأتي!.. أعاني اليوم من "قلق وراثي" عندما أكون في صنعاء شاحب الوجه أمام مسائها المتوحش!.

كثيرون اليوم يغادرون صنعاء أو يفكرون في مغادرتها دون الحاجة للنظر في ساعاتهم، لأن ساعة أخرى تعتري صنعاء فتغدو غاضبة من كل شيء و على أي شيء، لا أتحدث عن دمار يترك آثار مخالبه على بعض بيوتها، أو عذاب يدع آثار سياطه في بعض شوارعها، و قبل ذلك و بعده لا أتحدث عن صنعاء كجغرافيا أو بشر، أتحدث عن القلق المتكوّر في جسم صنعاء و ما يتمخض عنه من عناء يصل مداه إلى كل ربوع اليمن، كجزء كبير من استحقاق القاصمة السياسية كمرادف عبيط للعاصمة السياسية، حيث لا عصمة و لا سياسة بحضور الشيطنة الحاكمة، بدءاً من الإمام أحمد و انتهاءاً بالإمام أبي أحمد!.

مثلما يتوارث الناس في صنعاء أشواقهم و أمانيهم لدولة حقيقية، ترث صنعاء ما ألفته من إخفاقات و ملاحقات و إعدامات و اغتيالات، و من ثَم مصادرة تلك الأشواق المشروعة، صنعاء اليوم جَدة طاعنة في سن السياسة و الثورات، لا تكترث بالمستجدات و لا تعنيها التطورات التي تعصف بأحفادها و هم بين مذهول و غاضب و مقتول، قلبها البارد عاجز عن ضخ التفاتة حنونة لمن يسقط أو يغضب أو ينتحب، مشغولة بالتفكير في تركتها الثقيلة من الإخفاق، تبحث عن بقايا دمع يخضب وجهها و لا تجد ما يسد الحاجة للبُكاء لأن قيعانها المائية وشيكة النضوب، و في أعماق السائس الرسمي إدمان حروب، و كل ذلك يتم بغصن زيتون أرهقه الذبول، و حمامة طارت فَرقاً من أصوات المدافع و لهب القذائف، و صنعاء غارقة في تذكُّر مرات السقوط بين أيدي العبث الرسمي و الغطرسة الحاكمة، صوت من بعيد لقائد نهّابة الإمام و هو يقول: "صنعاء مدينة مفتوحة"، كما في رواية محمد عبد الولي، يعجز صوت الرصاص أن يقطع على صنعاء حبل ذكرى البارحة و هي تطل اليوم كوحشٍ نهِم، نامَ متخماً بعض الوقت ثم نهض يفترس من جديد، هل هو قدر صنعاء الجديدة أن تظل مسكونة بيومها القديم؟!. و هل هذا هو اليمن الجديد الذي وُعدتْ به صنعاء ليعيدها إلى سيرتها الأولى من الفوضى و الدمار؟! عاصمةً للقلق الحاكم، و الإخفاق الدائم؟!.

تغمض صنعاء أجفانها أمام المخرج السينمائي بدر الحرسي و هي تعود مجبرة ليومها القديم الذي حاول الحرسي تجاوزه اجتماعياً بفيلم "يومٌ جديد في صنعاء القديمة"، لكن السياسة الحاكمة تريد أن تتفوق في إعادة صنعاء سياسياً إلى يومها القديم!، هناك من يرفض ذلك، و صنعاء تتفرج صامتة!.