السبت ، ٢٧ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٥:٥٩ صباحاً

تأملات في الفعل الثوري اليمني المعاصر

أكرم الوشلي
الخميس ، ٠١ يناير ١٩٧٠ الساعة ٠٣:٠٠ صباحاً
تعاني اليمن منذ عقود من استشراء للفساد بكل أنواعه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي يسأل عنه النظام الحاكم بكل مستوياته، واستفحل هذا الفساد إلى درجة أصبح يهدد كيان المجتمع وأخلاقياته. وأدى ذلك إلى ظهور طبقة أو مجموعة مهولة من الفاسدين من مختلف المشارب والمأرب، فمنهم من أثري واغتنى من نهب الأموال العامة والخاصة، ومنهم من أستغل الوظيفة العامة لنهب أراضي الدولة وللحصول على الصفقات والمناقصات والمقاولات، ومنهم من حصل على المؤهلات العلمية بكل مستوياتها بالتزوير والتدليس، وغيرهم من الفاسدين ممن خان أمانة التدريس وأمانه الطب وأمانة القضاء والوظيفة العامة بكل أنواعها. وقد سمح الوضع المختل في ظل النظام القائم أن أصبح هؤلاء - سواء كانوا في الحزب الحاكم أو المعارضة - قدوة المجتمع وطبقته الراقية، وهم من يسمع لهم، وهم من يعمل بمشورتهم، وهم من تدار بهم البلاد وهم من يتحكمون بمصائر العباد.

وفي ظل هذا الخلل فإن هذه الشريحة من الفاسدين لم تفوت فرصة ركوب موجة ثورة الشباب وترك بصماتهم عليها، لتحقيق اكبر مكاسب ممكنة. كما أنعكس على ما يجري في اليمن اليوم من اعتصامات واعتصامات مضادة لفترة تزيد على الأربعة الأشهر ذاق خلالها الناس الويلات، ابتداء من انعدام الأمن والأمان وارتفاع الأسعار وانتشار الفوضى، وعلو صوت طالبي السلطة والساعين وراء الشهرة والبلاطجة والمسلحين والهواة والمغامرين على صوت المثقفين والمتعلمين والداعمين للحوارات وتحكيم العقل يشعر المرء بالحيرة والاستغراب والدهشة لما نراه من تغير للمبادئ والمعايير التي يتم بها الحكم على الاشخاص والمواقف.

فعند الاطلاع على تعريف مفكري الثورات للثورة الشعبية ومحاولة ربط ذلك بما يحدث في اليمن نجد مفارقات عجيبة تحتاج إلى الوقوف أمامها والتعلم منها لتصحيح مسار أي تغيير قادم في البلاد. فقد عرفت الثورة من الناحية التقليدية - بعد انطلاق الثورة الفرنسية – على أنها قيام الشعب بقيادة نخب وطلائع من مثقفيه لتغيير نظام الحكم بالقوة. وطور الماركسيون هذا المفهوم بتعريفهم للنخب والطلائع المثقفة بطبقة قيادات العمال التي اسماهم البروليتاريا. وفي اليمن يبدو واضحاً أن ما يحدث لا ينطبق مع أي من التعريفين ويتناقض معه.

حيث قدمت التجربة اليمنية وفي سبيل دعوتها لدولة مدنية حديثة نخباً جديدة لقيادة الثورة اليمنية يستحقون عليها براءة الاختراع التي وعد بها الشيخ الزنداني، ولم يتفتق عنها حتى عقلية مفكري ثورة 26 سبتمبر و14 أكتوبر. فبدلاً من المثقفين والمتنورين قدمت لنا التجربة اليمنية المشائخ والمتنفذين ليقودوا الشباب ويمولوا ثورتهم ويقاتلوا عنهم بأسم حماية الثورة، وأنحصر دور الشباب - المؤدلج - في الترويج لهولاء المشائخ والدفاع عنهم في وسائل الإعلام -خاصة تلك التي جعلت نفسها ناطقة بأسم الثورات العربية بحكم أنها تتبع أنظمة عربية تشع حرية وديمقراطية وتشكل مثالاُ يحتذي به فيهما– المهم يعمل هؤلاء الشباب بجد على هذه القنوات في الدفاع عن قادة الثورة من المشائخ، ويعملون على تصوير هؤلاء المشائخ بأنهم الشرفاء والقديسين، وأنهم رمز اليمن التاريخي وعلامة الجودة علي اليمنيين، ومن يصفهم بأنهم ملجأ المظلومين من أفراد الشعب وقائدي ثوراته ضد الإمامة والاستعمار والعثمانيين والأحباش والفرس ....الخ.
ونسى أو تناسى هؤلاء الشباب الذين يدعون أنهم لا يتبعون أي حزب، أن الدولة المدنية المنشودة لا يمكن أن تقوم بثورة أو حركة أو انتفاضة يقودها مشائخ سواء كانوا قبليين أو دينيين، وتناسوا أن معظم مآسي الشعب اليمني يقف ورائها هؤلاء المشائخ كونهم كانوا عمود الارتكاز للنظام واليد التي يبطش بها، ويكسب الانتخابات من خلالها، ونسي هؤلاء الشباب ان النظام إذا كان فاسد فإن اليد التي كان يسرق وينهب ويعبث بها هي يد معظم مشائخ القبائل، وبرعاية فتاوي مشائخ الدين، والذين تحول كثير منهم إلى حماة ومنظرين ومفتين لثورة الشباب الحالية. ولم يتوان الشباب عن رد الجميل لهؤلاء المشائخ فأعطوهم صك الغفران واعتبروهم حماة الثورة ورمزها وصار لهم الحق في أن يكونوا هم مشائخ المستقبل الثوريين.

وبالطبع انعكس أثر ذلك على ثقافة الثورة، حيث اتضح ان هذه الثورة تعمل على تعزيز بعض القيم التي عمل شعبنا اليمني العظيم على محاربتها منذ قيام ثورة 26 سبتمبر، وأن لم نتنبه لها ونحاربها فإنها سوف تكون الإطار الفلسفي والشرعي للبلاد في المستقبل، وتتمثل هذه القيم فيما يلي:

1. تعزيز دور وفكرة المشيخه في البلاد، وتصويرهم على أنهم رعاة وحماة الثورات، بينما يكون دور الرعية الاعتصام والتظاهر والظهور في وسائل الإعلام للتحدث عن دور هؤلاء المشائخ العظيم في رفع الضيم عن كاهل الشعب، وليس أدل على صحة ذلك من تصريحات احد الناطقين الإعلاميين باسم الشباب الموجود في ساحة التغيير في جامعة صنعاء من مدح ودفاع عن المشائخ المتورطين في أحداث الحصبة، والذي قال بأن الاعتداء عليهم يمثل اعتداء على رمز من زموز اليمن!

2. تعزيز فكرة الطبقية في اليمن فهذا شيخ من حماة الثورة وذلك من الرعاع الرعية، فالشريحة الأولي هي من يحق لها أن تحكم ومن تثور أيضاً، والشريحة الثانية هي التي من واجبها أن تخضع للحاكم عندما يرى ذلك الشيخ، وأن تخرج لتعتصم وتثور وتتظاهر عندما يأمر الشيخ ويفتي الشيخ.
3. تعزيز المنطق الجاهلي الداعي إلى التنابز بالألقاب، ووصم الآخر بأنه من أصول نكرة، بينما هؤلاء المشائخ (الثوار) هم رموز اليمن ذوي الدم الآري الأزرق والراقي، وأصحاب الأصول الراقية العرقية. وهذا يتبين بوضوح مما تطرحه بعض وسائل إعلام المعارضة ومن يتعاطف معهم من أفكار طبقية مقيتة، والفاظ جارحة وسب وشتم لبعض رموز النظام، اساءت لسمعة اليمن وشعبها في الداخل والخارج.

4. أعطت الأمور السابقة شعوراً لدى هؤلاء المشائخ أو من يوصفون بهذا الوصف اليوم بأنهم أصحاب الثورة لأنهم هم من يمولون ومن يقاتلون ومن يقطعون الطرقات ومن يحرس الساحات ومن يجمع التبرعات، ومن يريد دليل على ذلك فعليه متابعة تصريحات مشائخ الثورة بما تتضمنه من التعالي والتغطرس، ووصف أحدهم لما يجري اليوم بأنها ثورته ولن يسمح لأحد بالتلاعب بها، وبأنهم يستطيعون مهاجمة دار الرئاسة في أي وقت، وتصريحهم بأنهم يحمون مدينة تعز – المدينة التي تزخر بالمثقفين والمتعلمين- وساحة الاعتصام فيها وغيرها من المدن والساحات من عدوان قوات النظام.

5. ادت الإحداث الحالية إلى انحطاط الإعلام الداخلي إلى مستويات وضعية، فتحول الإعلام – مثل إحدى القنوات المحلية المعارضة - ومن يقومون عليها المفترض بهم نشر التنوير والثقيف ونشر المعرفة، وتحويل هذه المنابر إلى منابر سب وشتم وتجريح وكذب وتلفيق، فبالله عليكم أي ثورة في العالم هذه قيمها، وهؤلاء هم منظريها.

المفارقة الثانية في الثورة اليمنية التي تسبب الحيرة أن ثورتها يتزعمها بدلاً من العمال الذين جعلهم الاشتراكيون بمثابة النخب المثقفة المناط بها قيادة الثورة، بدلاً من ذلك قدمت لنا الثورة اليمنية الجديدة نخب جديدة لقيادة الثورة هم مجموعة من رجال الأعمال المرتزقة الذين أثروا بطرق غير مشروعة، واغتنوا على حساب الشعب المغلوب على أمره، مجموعة من رجال الأعمال الذين لا يتورعون عن الاحتكار والتهريب والتهرب وعمل المشاريع الوهمية، والدخول في عمليات بقصد الربح حتى لو كانت على حساب الوطن ولحساب إسرائيل. يقود ويمول ثورة اليمنيين رجال أعمال وضعوا أنفسهم في خدمة هذا النظام في مقابل أن يعطيهم النظام الحرية في الإثراء غير المشروع والتهرب من الضرائب والحصول على الصفقات والمناقصات الحكومية والتلاعب في تنفيذها والتلاعب بالأسعار واحتكار الأسواق والخدمات. والأظرف من ذلك أن من يسمون أنفسهم الشباب ووكلوا أنفسهم للحديث باسم الشباب أعطوا هؤلاء المرتزقة من رجال الأعمال صك الغفران وابتكروا لهم أحدث طريقة في العالم لغسيل الأموال هذه الطريقة هي الانضمام للساحات، فمن انضم للساحة صارت الأموال التي جمعها باستخدام كل الطرق غير المشروعة مشروعة وحلال عليه وعلى من يرثه، حتى إن آتت هذه الأموال من دم ولحم الشعب.

ومن خلف النخب اليمنية الفريدة التي تقود الثورة اليمنية والمتمثلة في المشائخ ورجال الأعمال، يأتي المنسلخون من النظام والقافزون من السفينة قبل أن تغرق - للتشعبط – على قارب حاجات وآلام وأنين الفقراء والمساكين من أبناء الشعب، يأتي الوزراء والنواب والقادة العسكريون المستقيلون الباحثون عن الأمان وعن مكان في الحكومة والدولة في المستقبل. ونسي شباب الساحات ومشائخ الدين ومشائخ القبائل ورجال الأعمال والمنسلخين من النظام وغيرهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل فيما معناه "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إن فقهوا". نسي الثوار الجدد الذين يقومون بثورة لأنفسهم ليتولوا هم رئاستها وحكومتها ومجلسها النيابي، والذين فوضوا انفسهم منح البراءة والتوبة للمشائخ والهاربين من النظام ورجال الأعمال، نسوا أن المبادئ لا تتجزأ وأن الشخص ذي المبادئ لا يحتاج لوقت معين أو ظرف معين أو مكان أو زمان ملائمين ليظهر مبادئه، فكيف يعقل أن يكون أحدهم أمس من كبار القتلة والمرتزقة والفاسدين والنهابين للمال العام والخاص ومن كبار المنافقين والساكتين على الفساد والموقرين للفاسدين، وأن يتحول اليوم إلى ثائر يقود ثورة أو يحميها أو يمولها.

وتناسى الجميع وغضوا البصر والتبصر عن هؤلاء وعن كونهم ليسوا سوى مجموعة من الانتهازيين يستغلون هذه الاعتصامات ليتطهروا، ويتباكون باسم الشعب الفقير لكي ينجوا بأنفسهم وأموالهم التي نهبوها من المال العام والخاص من المحاسبة والمحاكمة فسارعوا إلى الانضمام للساحات لتعطيهم الحماية الأخلاقية مقابل ان يعطوها الحماية المالية والحماية المسلحة، ووجدنا أنفسنا أمام صفقة مشبوهة بين أطراف مشبوهة وذوي مآرب مشبوهة.

لذلك أرى أن الشعب اليمني وضع اليوم - رغم إرادته - من قبل كل الأطراف المتصارعة أمام أزمة حقيقية أخطر من كونها أزمة سياسية، أنها في الأساس أزمة أخلاقية، وتجلت هذه الأزمة بوضوح عندما أصبح القتلة واللصوص والظلمة هم حاملي راية الغلابة والمقهورين من أبناء الشعب والمطالبين بحقوقه، وأصبح المرتزقة والمتاجرون بخيرات البلاد وبآمال وطموحات أبنائه هم من يدعمون الثورة، وأصبح الكذابون الذين لا يتورعون عن تزوير الحقائق وتلفيق التهم الكاذبة والعمل لحساب من يدفع أكثر مهما كانت مأربه وأهدافه. أزمة أخلاقية جعلت من كل هؤلاء هم من يتحدثون باسم النخب المثقفة للشعب اليمني، أزمة أخلاقية أفسحت المجال ليس لإسقاط الفساد والفاسدين بل لإسقاط البقية الباقية من القيم والأعراف التي كانت موجودة في البلاد، وأتاحت الفرصة لكل ذي نفس مريضة وحقد دفين أن يخرج ما بنفسه من قاذورات وأحقاد على القيم والأعراف الدينية والاجتماعية والأخلاقية والأكاديمية.

نحن أمام أزمة أخلاقية تحتم علينا جميعاً أن نعيد النظر في كل ما يجري حولنا، وأن نعي وندرك بأن البلاد ليست ناقصة نافخي كير ومشعلي أزمات وحرائق وطامعي سلطة ومغامرين وطالبي شهرة، ولا تحتاج مرشدين وأوصياء عليها من الأسرة الفلانية او الضابط الفلاني، بل تحتاج إلى مواطنين شرفاء في الأمس واليوم يحكمون العقل والمنطق ويتمثلون بالوسطية وينبذون التطرف ويراعون مصلحة الوطن والمواطن ويضعونها فوق كل الاعتبارات، بعيداً عن المناطقية والمذهبية والطبقية والحزبية، والله من وراء القصد.