الجمعة ، ٢٦ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٣:٤٣ صباحاً

أزمة المصطلحات في الوطن العربي والإسلامي

إبراهيم القيسي
الخميس ، ١٣ فبراير ٢٠١٤ الساعة ١١:٤٠ صباحاً
ظلت الأمة الإسلامية في سيادة تامة وحيادية مستقلة تصدر عن مرجعية ثقافية إسلامية تنبع من أصول تتكئ على تراث عريق يزهو بالمعارف الشاملة ويتبختر في جلابيب العلم وتيجان الفخار وظلت ثقافتنا الإسلامية تمد بروافدها الدافقة إلى مشارق الأرض ومغاربها تنير السبل وتضيء كهوف الجهالة بأنوار العلم وتشرق بشموسها على العالم فاهتدى بها الحائرون في الصين والهند وأوربا وقد أفرزت جهابذة من العلماء المتخصصين في شتى الثقافات الإنسانية وأثبت العقل العربي خاصة والإسلامي عامة مدى قدرته واستيعابه للأفكار المنطقية والفلسفات العامة وطرق التسلسل المنهجي القائم على الفروض العلمية الدقيقة .

ولقد أدرك أسلافنا فحوى الخطاب القرآني وإشادته بالعلم والعقل ويكفينا شرفا أن أول سورة من القرآن نزلت بالأمر بالقراءة ... إضافة إلى تخصيصه للقسم بالنون والقلم الذي يسطر به العلم في سورة نون وهناك كثير من السور بدأت بالحروف الهجائية المقطعة إضافة إلى الأوامر القرآنية والنبوية التي جعلت من العلم مرتبة عالية لا تساويها مرتبة ومن هنا أدرك سلفنا هذه القيمة فأخذوا بأسباب العلم فسادوا العالم وأسسوا حضارة إسلامية بلغت شأوا كبيرا من العلو والتقدم في جميع مناحي الحياة وكان الأوربيون يدرسون في جامعاتنا الإسلامية ويعتزون بعلومنا ويفتخرون بلغتنا وتراثنا ويلبسونا العمامة والجبة العربية ويزهون على أقرانهم بتكلم الفصحى بعد تخرجهم من جامعاتنا الإسلامية .
ومن هنا نؤكد أن القوي بعلمه وثقافته يفرض على الآخر إنتاجه الحضاري بصورة مطردة ويحاول أن يصدر ما أنتجته ثقافته إلى الشعوب الأخرى يساعده على ذلك جهل الآخر وفقره وضعفه كذلك اتجاه الموجة الحضارية والسيادة السياسية والعمق الثقافي والبلوى المصيرية والتوكيل الاغترابي في زمن التخلف والاتكالية والسير في ركاب الموجة الحضارية بلا تميز ولا حدود .

ونتيجة لسقوط الجامعة الإسلامية وتناثر العقد الحضاري وتقسيم العالم الإسلامي إلى دويلات صغيرة تعيش تحت حماية دولية بدأت باستعمار بغيض وانتهت باستقلال تحت الوصاية هنا بدأ الاستعمار الثقافي يأتي أكله ولما كنا أمة متقزمة منقسمة على نفسها انعكست الموازين فأخذ الغرب التسلق إلى هامة الحضارة بعد تجربة دامية خاضها في حرب أهلية أزهقت نفوس الملايين من البشر وسقطنا نحن من قمة الحضارة إلى الحضيض وعشنا ما عاشه الغرب في عصوره الوسطى .

أصبح الغرب هو السيد ونحن العبيد أصبح المصدر للثقافة ونحن المستهلكون أصبح بيده مفاتيح العلوم والسياسة والقيادة ونحن المتلقفون هناك مئات من المصطلحات في جميع الفنون العلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ...الخ ولست معترضا على هذه السيادة لأن القوي يفرض لغته وثقافته على الضعيف في حال السذاجة المرفوضة والتبعية العمياء ولولا أن هناك عوامل مقاومة طبيعية في لغتنا لذبنا في بحور الطوفان الثقافي منذ عقود ماضية لكن لغتنا وقدرتها على إذابة كل اللغات في بوتقتها الخاصة فهي بدورها قد صهرت كل المصطلحات في إطار التعريب الذي امتازت به لغة التنزيل غير أني أحذر من بعض المصطلحات التي تتسم بدلالات تحمل في إطارها عوامل التغريب المستمرة لأنها تتكئ على خبث لفظي لديه المناعة الواقية ضد عوامل التعريب ويتصل بمؤسسات غربية تعمل على استمرارية جدواها بما تعطيه من دلالة متنوعة مثله مثل الفيروس الذي يقاوم الدواء حيث ينتج مقاومة كبيرة ضد العقار في أجياله المتلاحقة .

هناك الكثير من المعجبين بالحضارة الغربية بدءوا ينظرون لتلك الأفكار الواردة ويكثرون من ترديدها ويلبسونها بديكورات جميلة تعمل على الجذب والإعجاب ليخدعوا بها قليلي الثقافة وسطحي الفهم من المراهقين فكريا والذين أخذوا يعلنون تلك المصطلحات كأنها ثوابت أصيلة لاتقبل الجدال ولا المناقشة ولا الأخذ ولا الرد ولم ينطلقوا من أسس ثقافية عربية تتكئ على قواعد دينية وأخلاقية وتترجم الواقع الثقافي العربي بأبعاده الأيدلوجية الرائدة فغرامهم بالمعارف الغربية الطافية على السطح قد أعمى قلوبهم وأبصارهم عن حقيقة الانتماء إلى تراثهم وعقيدتهم فأغفلوا مقوماتهم الأصيلة واستبدلوا بها مقومات هجينة لصيقة ودخيلة على ثقافتهم وفكرهم بما تحتويه من اللواصق الجذابة ذات الألوان الخادعة .

ولم يكتف هؤلاء بترديد تلك الشعارات بل أرادوها دينا ومعتقدا وثقافة ودستورا يعتقدون في تطبيقها معجزة للإنقاذ من التخلف عن ركب الحضارة وثورة شاملة لهدم كل المعتقدات والأخلاق الإسلامية وقنبلة لتفجير صروح الثوابت الموروثة قد أصابتهم لوثة جنونية عملت على تحوير أفكارهم إلى الثقافة المضادة وجيرت جهودهم الجبارة لإحياء الموارد الفكرية الوافدة وإماتة المنابع الأصيلة التي تعطي صورة حقيقية عن هويتهم وتاريخهم فمثلهم كمثل من تبرأ من أبيه وأسرته وانتمى زورا إلى قوم لايمت لهم بصلة طالبا باستهوائه غرضا دنيويا فعاش ملقى في زبالة السخرية ومنبوذا على أرصفة الشماتة والاحتقار تلاحقه اللعنات من اتجاهين مختلفين جزاء تمرده وخيانته لدينه ومعتقده وثقافته وتاريخه .

فالاستيراد المطرد للمصطلحات الغربية من ديمقراطية ومدنية وعلمانية وليبرالية ودكتاتورية وثيوقراطية وأرستقراطية ... الخ قد أعطى تطبيعا عاما لهذه المصطلحات وأوجد لها بيئة صالحة وسكنا مستقرا حيث حدث مقابل استيطان هذه المصطلحات تشريد المصطلحات الأصيلة لثقافتنا ولغتنا العربية وجففت المنابع والابتكارات الفكرية وأصبح العقل العربي عالة على ما ينتجه الفكر الغربي من مصطلحات فيستقدمها المثقف العربي بطريقة استهلاكية تنم عن تخلفه وانجراره بصورة غير متزنة في تلك الطريق الموبوءة بالمخاطر الفكرية التي تولد مفاهيما أيدلوجية تعمل تأثيرا سلبيا مع الزمن يخلق في إطاره بيئة فكرية ذات أسس انتهازية تعمل على تشويه التاريخ العربي وتضعه مسخرة أمام حضارات وتواريخ الأمم الأخرى .