الجمعة ، ٢٦ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٩:٣١ صباحاً

وجوه جديدة لمستقبل مجهول

علي الذهب
الأحد ، ١٣ نوفمبر ٢٠١١ الساعة ٠٩:٤٠ صباحاً
ليس من الكياسة أن تؤخذ الأحداث الهامة على تجلي ظواهرها، وأن يجري التغاضي عن جوهرها، أو أن ننفعل بعواطفنا معها لمجرد تجليها فحسب، دون أدنى تدبر أو تفكر، ذلك أن لكل حدث سببا، ولكل سبب مسبِّبا، وأن مبتغى الأحداث جملة من الرغبات والنوازع يتقاسم همّ تحقيقها رجال تلك الأحداث والواقفون إلى جوارهم في مسيرة التحقيق والتحقق.

ألم يقل أعرابي الجزيرة: إن البعرة تدل على البعير، وأثر القدم يدل على المسير؟ فالأعرابي، بفراسته البسيطة، يرسم لنا بتعبير موجز أبعاد أي مشهد تغييري يقع في دائرة الإدراك، للإقلاع منه إلى ما وراء الإدراك؟ وهذا القول يأخذني إلى تساؤلات هامة؛ هذه التساؤلات ربما تثير ردود أفعال ساخطة إزاء ما تنطوي عليه بعض الإجابات التي تنتصب في وجه كل تساؤل، إذا ما تصادم ذلك مع توجه أيٍّ من الجماعات أو التكتلات الفاعلة في ساحة ما يجري اليوم في بعض الجمهوريات العربية.

دعونا نقف عند هذه التساؤلات وإجاباتها الاجتهادية المفترضة، وهي -هنا-بقدر ما تُلهب بوخزها إلا أنها ذات غاية بحثية محايدة، لأن من بين غايات الباحث أن يفسر أي ظاهرة تسترعي انتباهه، وأن يُجْلي عن الأنابيش التي تقع في يديه كل ما علق بها من غبار، وتقديمها بوجهها الذي يعتقد صحته، في سياق من التأصيل أو الابتكارية، ويلقيها في متناول من بوسعهم الإضافة والتطوير أو إثبات النقيض.

هذه التساؤلات: أليس العالم العربي على موعد مع عهد جديد، بملامح مغايرة تماما لملامحه في القرن الماضي، في مسار القيادة والإدارة والعلاقات؟ أليس مثيرا للجدل أن تقدم القوى الدينية المناهضة للغرب إلى المشهد السياسي من قبل الغرب أنفسهم، باعتبارها قوىً بديلة للقوى السابقة ذات النزوع الليبرالي المهادن للغرب؟

إن قرنا مضى من الزمن، قد ضم تحت شمسه سجالات عنيفة بين العرب وبين الغرب، بقطع النظر عن ميدان تلك السجالات ونتائجها، ولم تضف تلك شيئا جديدا إلى مفهوم سجالنا معهم، غير أنها تطورت في أدواتها وأساليبها، حيث أخذت أكثر من وجه؛ كان أهمها: السجالات العسكرية؛ بآلاتها المدمِّرة المتطورة المختلفة، وثانيها: السجالات السياسية؛ بأحابيلها المتعددة، وقد تمخضت تلك السجالات عن أنظمة مقطوعة الصلة بشعوبها، وتتفاوت بين قدرتها الذاتية على حماية أوطانها ومواطنيها، فارتهنت في أكف خصوم الأمس، وغدت في نظر شعوبها أنظمة عميلة، متآمرة، يكيد بعضها لبعض، وتتصنع الوفاق فيما بينها تصنعا ممقوتا، فتحول السجال الخارجي إلى سجال داخلي، بين تلك الأنظمة ذاتها، بنفس الأدوات والوسائل، في سبيل الاستيلاء على الأرض أو الثروة أو الزعامة، وتعُود سجالات الحرب الخارجية مغلفة بحبائل السياسة، عندما تغدو مبررة عالميا أو إقليميا، كما حدث في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، وفي حرب تحرير الكويت عام 1990م، ثم في إسقاط نظام صدام حسين في العراق عام 2003م، وأخيرا في امتطاء طموح الثوار الليبيين للإطاحة بنظام معمر القذافي، الذي تحقق في العشرين من أكتوبر الجاري 2011م.

إن أغلب الأنظمة العربية الحالية شاخت في أعين شعوبها، وفي أعين حلفائها الغربيين أيضا، وأضحت غير مرغوبة ومكلِّفة لدى أي منهما، ومبعث ذلك التفكير؛ فقدان الثقة فيما بينها، وقد زاد من ذلك، نزوع هذه الأنظمة لتوريث الحكم للأبناء، وهو التفاف واضح على النظام الجمهوري الذي انتهجته، وعلى الديموقراطية الناشئة التي يجري التشدق بها في إعلام هذه الأنظمة، فضلا عن أنها فشلت في أن تقدم نفسها بصورة العميل الحقيقي الذي يؤمر فيطاع، إذ حاولت أن تتبنى بعض المواقف الوطنية المطمئنة لشعوبها، بعد أن أضحت محل ارتياب الكثيرين، لكنها وهي كذلك لم تَلقَ أبسط درجات الرضىً المحلي أو الاستلطاف الغربي في آخر عمرها، بل غدا ذلك سهاما مرتدة نحوها، والأمثلة كثيرة؛ من بينها: المزايدة في قضية الصراع العربي الإسرائيلي، التي تحولت إلى سلعة مبتذلة في أيدي الزعماء العرب للمزايدة بها في كل محفل، إضافة إلى قضايا الإرهاب، والاضطهاد ضد الأقليات المسيحية، والحريات والحقوق المختلفة؛ كحرية وحقوق المرأة، وحقوق الإنسان على سبيل التعميم.

باتضاح تجربة الغرب مع زعماء هذه المنطقة خلال القرن الماضي، فقد بدا الأمر مقلقا -بحقٍ- فيما لو جثم على تلك العروش مَن هم على شاكلة سابقيهم، وبخاصة الأبناء, وقد جرى التخلص ممن هو أعتي منهم في مرحلة مبكرة، وهو صدام حسين، بعد أن نبا عنهم قرينه في دمشق؛ حافظ الأسد، فالتقت رغبات الغرب بمطامح رجل الشارع العربي، الذي تجرع مشهد هذه الوجوه عقودا، وانبرى الإعلام الغربي بشيء من الصخب يناقش في محافله ومنابره مسألة التوريث في الجمهورية العربية الثلاث؛ مصر، وليبيا، واليمن، فابتردت نفوس هذه الشعوب من بعض غليلها، حين أيقنت أنها ليست وحدها في قطار الرفض، وأن ذلك الموقف ينبغي الإفادة منه، لأن كسب عامل الخارج هو من ضمانات نجاح الأهداف، وجاءت على غير موعدٍ الثوراتُ العربية، ترفل في ثوبها الربيعي، فتخرج القوى المقهورة من معاقلها لتتزعم الغليان الثوري في وجوه قادتها المعمَّرين، وتطيح بهم وبعروشهم الخربة ابتغاء وجه الجميع.

مع ازدحام المشهد في ميادين الثورات العربية رصدت أعين الغرب تفاصيل وسمات الجموع، فخنقتهم الرهبة من هؤلاء؛ بلحاهم الطولية، وجلابيبهم المميزة، وتراتيلهم القرآن، وإقامتهم صلوات الجُمع وغيرها بجموع غفيرة، إلى غير ذلك من المظاهر التي يُطل معها الهلال الإسلامي مع الصليب المسيحي في بعض هذه المشاهد، لكنّ بعضا من أولئك الرصاد نراهم يفصحون في وجه كل من يقاوم وصول تلك القوى إلى السلطة، بأنهم لم يُجربوا، في حين لم تصل تلك الطمأنة إلى البعض، فكان انطباعهم منطلق من وقائع الماضي اليسيرة، فتراءت انطباعاتهم الأولى سوداوية ومتوجسة من تلك الوجوه، وقد عبر عن ذلك رئيس جهاز المخابرات الفرنسية السابق، وهو يعاتب حكومته، وواصفا رجال السلطة الجديدة بعد سقوط نظام العقيد القذافي، بالأفاعي، فقال واصفا الجميع: "لقد قاموا بتربية أفعى، وسيأتي اليوم الذي تلدغهم، وستكون فرنسا أول من يُلدغ، وإن كنت لا أتمنى حدوث ذلك".

في الحقيقة، إني لأجد هذا الفهم فرية كبرى، لأن تلك الوجوه ليست سوى جزء من المشهد، وإن كان لها التصدر فيه، وإن كنت في الواقع أخشى أن يكون ذلك الدفع جزءا من مؤامرة خطيرة، تمهد لمبرر ديني يجعل من البلدان العربية التي تغتلى فيها الساحات الثورية مصائد مؤجلة لمرامٍ مستقبلية خبيثة، حتى وإن تعالت أصوات القلقين في الغرب، لأن دوائر الاستخبارات الغربية تسهم بالنصيب الأكبر في صنع القرارات الاستراتيجية لتلك الدول، سواء في قرارات ما وراء حدود الجغرافيا أو في أطارها، ولم يخفِ أحد رؤساء المخابرات الفرنسية السابقين -أيضا- في كتابه الحرب العالمية الرابعة، الصادر عام 1993م، مثل ما أبداه أحد خلفائه الذي أشرنا إليه سلفا، حيث كان الملف الليبي يحظى باهتمام هذا الجهاز، ولعل وقائع ما جرى في ليبيا خلال التسعة الأشهر الماضية، إنما كان على مرآه ومسمعه.

فهل سينجح القادمون الجدد في إفشال ما يُكاد لهم على سبيل افتراض وجود الكيد؟ أم أن حداثة التجربة ستجعلهم والوطن العربي في مرمى أسلحة الخصوم الغربيين المتربصين بهم دينيا، وقد أرهقت أسماعهم منذ قرون وقع خطوات عبدالرحمن الغافقي وجيشه في مرتفعات البرانس وعلى تخوم باريس؟ إن على هذه القوى عدم الاغترار بأرصدتهم في الساحات، والاندفاع بمفردهم في المعترك الجديد، ذلك أن خروج من سبقهم إنما سببه ذلك الاستفراد والاستبدادية بالقرار، وهي عبرة ثمينة يجب التقاطها، حتى لا يتكرر مشهد ما جرى في غزة أو تونس قبل بضع سنين، وننجر دون وعي إلى مرحلة أخرى لا نرغب بها بتاتا، وتغيب الأوطان في أنفاق الحرب والصراع والتدخل الأجنبي.