الجمعة ، ٢٦ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٣:١٠ مساءً

شذرات من ذكريات ،، أبي

عباس القاضي
الاثنين ، ٢٣ يوليو ٢٠١٢ الساعة ٠٩:١٦ مساءً
لم يكن أبي – رحمه الله – رجلا عاديا فبرغم نيله قسطا وافرا من العلوم الشرعية في مدينة العلم والعلماء – زبيد – إلا أنه رفض تولي القضاء عندما عُرِض عليه ، خوفا من دَخَن وظيفتها ، وهروبا من فتنة قد لا يستطيع الفكاك منها ، واكتفى بأن ينزوي في قريته أمينا شرعيا ، ومصلحا بين الناس ، ويشرف على زراعة أرضه التي كانت تزيد من ارتباطه بالله الخالق الرازق ، فكان يرفع أكفه إلى السماء جريا على عادة أصحاب القرية ، إذا تأخر المطر ، لتُسقَى ، فلا بئر تسقيها , ولا نهر يرويها ، وكانت فرصة موسمية لمراجعة ومحاسبة النفس إذا حبس القطر من السماء ، يرجعون حينها إلى الله مستغفرين ، مجددين توبتهم.

لم أر أبي غاضبا قَطْ...إذا رآني ألعب مع أقراني وبيده ما يريد توصيله إلى البيت ، ناولني إياها وهو يقول : سألعب بدلا عنك ، ومن فرط براءتي كنت أصدقه أن سيلعب مع أصحابي " الغماية " ، فتطير قدماي النحيلتان في الهواء إلى البيت فرحا بأريحية أبي ، وبطبعه المختلف عن بقية الآباء ، الذين لا يتحملون منظر أبنائهم وهم يلعبون.

كان أبي له أصدقاء كُثُر غير أن له أصفياء يلازمونه ثلاثة أيام من كل أسبوع من يوم الأربعاء سوق القرية الذي كان إلى يوم الجمعة سوق الجند ، وكانوا يتسامرون وهم الكبار سنا وشأنا ، وكأنهم شباب في صفاء سريرتهم وخلو همومهم.

كان يحبني ، يدللني صغيرا بدليل أنه أختار لي إسما ، كان في ذلك الوقت يعتبر عصريا ( عباس )، حيث كان أسماء إخوتي تقليدية ( محمد – علي – أحمد عبدالله ) ولأنني اغتربت صغيرا وكان وجودي في حضرته نادرا وعندما كبرت كان يخفي علي مشاعره ، ولكنني كنت أعرف حبه لي من خلال حبه لأصدقائي.

ما كان أبي يملك مالا كثيرا، لكنه كان كنزا يمشي على الأرض بقناعته وشكره لخالقه.

في وداعه الأخير لي وأنا أغادر الوطن ، ودَّعَنِي مرتين ، مرة في البيت ، وأخرى في المفرق ، وكان حزنه لفراقي ليس مثل كل مرة ، بكاني بحرقة ، وكنت ألاحظ تعلق عينيه على صفحة وجهي والدموع تنساح على خده ، لم أدرك سر هذه النظرة ، إلا عندما جاءني خبر وفاته - وأنا في السعودية في أول يوم من اختباري الثانوية العامة – فكأنها نظرة وداع _ رحمك الله يا أبي –.