الجمعة ، ٢٦ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٨:٤١ مساءً

ظاهرة الصحف الألكترونية

طارق السكري
الثلاثاء ، ١٤ أغسطس ٢٠١٢ الساعة ٠١:٤٠ صباحاً
انتشار الصحف الأكترونية في هذه الأيام شيء ملفت للنظر !

ظاهرة لا تبشر في اعتقادي بخير !

ليت الذي فيها من مواضيع وأدبيات وأفكار يبعث على الطمأنية .

ربما دل انتشارها بهذه الصورة غير المنظمة على المدى الذي بلغته النفس الإنسانية من ضيق ونكد .

الإنسان المشدود الأعصاب .. المتوتر المزاج .. المعطوب الوجدان .. المنكوب الروح .

غاضب من لا شيء على لا شيء ! شاكٌّ أبداً .. نفسه في منخره .. ناقمٌ بالفطرة .. يريد على الدوام في الحكومة وجوها جديدة .. يترك ما في يديه من أجل أن يحصل على خبر جديد .

تدفعنا أرحام أمهاتنا منذ الطلقة الأولى إلى قلب المعترك السياسي . فإذا بك في المدرسة كأنك في مجلس قات !! صراع في السياسة كصراع التيوس في الزريبة .

إن حياة كهذه كزوايا مقبرة !

إنَّ الذي يقضي حياته وقد صمَّ أذنيه فلا يسمع , وأغلق قلبه فلا يعي .

وخرّب روحه فلا تفقه ما توحيه الطبيعة , والكائنات من حوله , من لغات ورسائل .. ولا ينصتُ جيدا لما تبثه في روعه الجبال والنجوم والشجر والطيور والحقول والأودية , يعيش منفصلا عن نفسه , ونفسه منفصلة عنه ! صار هو أجنبيّ عن نفسه , وصارت هي أجنبية عنه .

صار الإنسان يخاف أن يخلو بنفسه ! ولا أدري ماذنب هذه الأميرة الفقيرة بين جنبيه ؟!

منذ طلوع الشمس والجريدة شغله الشاغل . لقمة تتمضّغُ في فمه , وعينه على الأخبار , ويده تتحسس في عمى كوب الشاي !

وفي العمل لو سنحت فرصة اهتبلها بتصفح الأخبار على النت.

لحظات قلائل , وإذا بخدمة الجوال الإخبارية تنكزه برسالة في جيبه .

وفي المساء لا يعود إلى أطفاله وبيته بل يعود إلى الأخبار على التلفاز .

يظل عمره يجاهد في تتبع الأخبار .. فإذا ماخلا بنفسه يوما ضاقت عليه نفسه مما فيها من هموم الناس وكوارث الطبيعة ومصائب الأمم وخيانات التنظيمات والمؤامرات والمزايدات .. فعَمَدَ إلى النافذة ورمى بنفسه منها مستشهداً في سبيل الأخبار !

أحس وأنا أكتب في غرفتي هذه ضخامة المسؤولية الملقاة على عاتق الأديب وحده في هذا الركام .

إن النفس منا تشكو إلى الله المتعال من هجرنا لها , وبطشنا بخلقها , وهضمنا حقها ..

إن حياتها معنا كالجحيم !
ما الذي في النفس حتى نشعر يوما بالسعادة ؟!

- أخبار .
ما الذي في العقل حتى نخطو يوما إلى الأمام ؟!

- أخبار .
ما الذي في الروح حتى نسمع يوما همسات الحور في السماء ؟!

- أخبار في أخبار .
مات الخطيب من قراءة الأخبار .

- فلان ! أنت إنسان متعلم .. هلاّ سددتَ الثغرة ؟!

- لا أستطيع ! يتمتم الناس في الخفاء : فاقد الشيء لا يعطيه .
إن الحديث عن الجمال ليس من باب أكل الهواء . بل الحديث عن الفنون المنظورة أو المسموعة أو المقروءة هو الحديث الوحيد في هذه الدنيا الذي يحمل معنى الصدق والإيمان .

0000
إهمال النظافة , التطفل على موائد الآخرين , الرضى بالدون .. المقاطعة في الحديث , وسوء الأدب في الحوار , وتصنيف المرأة من جملة الشياطين .. وانتهاك عرض المخالف لنا بالرأي .. كل هذه الأخلاقيات المقززة لا يمكن التخلص منها إلا من باب واحد .
التعصب المقيت .. وإفشال المشاريع الخدمية جراء المكايدات الحزبية الملعونة .. ليس له علاج إلا من صيدلية واحدة !
التعسف في مطالبة الحقوق , والتعسف في تفسير النصوص , وقطع ما أمر الله به أن يوصل من تواد وتراحم , لا يكثر في أمةٍ إلا إذا ضعف لديها جانب واحد فقط !
بالتأكيد ليست السياسة جزءاٌ من الحل .
وهل نعيق الغرابيب يعود على الفلاح بشيء ؟

000
إن أغسطس في رواية أحلام الناي لم يحظ بسعادة قط ! كانت مظاهر السعادة تشع من حوله . كل من تقع عينه عليه يحبه , يترك الدنيا لأجله . لكن أغسطس لم يكن يحب أحداً .
لا توجد فتاة في باريس إلا وطارت إليه .
لا توجد أميرة في المدينة الذي هو فيها إلا وركعت عند قدميه .
ولا مقهى قمارٍ إلا ورحب به , وتنازل له عن كل مشروب يقدمه .
لكنه كان يفقد شيئا مهما وضروريا في حياته , طال عناؤه بحثا عن هذا الشيء وهو فيه أصلا , فلم يعثر عليه .. لم يعثر عليه إلا يوم عاد إلى بيته القديم , الكائن في ريف بسيط نائي , حيث لاضوء غير ضوء المدفأة العليل , ولا صوت إلا صوت أغاني الطفولة اللذيذة تنبعث من وحي الذاكرة في نفسه .. لقد أضاع أغسطسط صوت نفسه فشقي , وكان يوم أن لقيها سعيدا جدا .. لكن بعد أن تهدلت لحيته , وشاه وجهه , وغاض ماء شبيبته .

0000
في روسيا يطأ الجوعى آلامهم قسراً , وينتزعون البقية الباقية من رمق .. وبعضهم يأخذ من قيمة الخبز , ليشهد محفلا فنيا , يُطفأ خلاله نهم روحه وعطشه إلى الجمال .
ما الذي يُجمّل وجه الحياة ؟ ويجعل من الإنسان رغم جوعه يقفز على العوائق كلها فيبتسم ؟!

...

يطلع عليك أحدهم في المساء متثائبا : لقد شغلونا عن الفن بالجري وراء لقمة العيش !!وهذا من طوام العوام بالأمس , الذي صار من طوام النخبة اليوم . حتى لقد علمتُ مؤخرا أن هذه المقولة صارت لدى بعض الشعوب العربية نصا مقدسا , وصار من الحق الذي لا ينازعهم فيه أحد من البشر !
إن السياسي المخادع يشغلك عن هدفك إلى هدفه . هذا شيء طبيعي لأن هذا عمله . لكن اللائمة عليك أنت إذا تقضي الحياة بلا عمل ولا هدف . لقد أخذ منك مايريد , وأنت تشخر في تنويم مغناطيسي مرعب .

والسؤال لمَ لا تشغل السياسي بما تريده أنت ؟
إن الحديث عن السياسة ليس من شأني , لكني أقدّر كأديب تربوي قيمة الفن الراقي في تهذيب النفوس , وصقل المدارك الوجدانية , وتنمية الذكاءات العاطفية,وتربية الذائقة الفنية , وتزكية الضمير , وتصحيح التصور عن الكون والإنسان والحرية والعمل والحركة والإنتاج .

إن قيمة الأمة لا تكمن في سرد الكم الهائل من الأحداث السياسة, وحفظ الأخبار اليومية . ولكن وزن الأمة يكمن في نظرتها إلى الفنون , وتقديرها للمبدعين .

إن الدور الريادي في كل حضارة لا يقوم به السياسيون , وكل ثورة قام بها سياسي باءت بالفشل .. إن الذي يقدر على أعباء النهوض في كل جيل هم الأدباء وحدهم .. هذه الفئة المغمورة التي لايسمع بها أحد , المقتولة التي لم يشيعها أحد .. وهي رغم ذلك لا تزال راضية مطمئنة .

لعلني أشدهك بقولي لو أنك أردت أن تعرف أن هناك ربيعا جديدا بالفعل فانظر هل من مجلة أدبية ؟ هل من محافل فنية ؟ هل من داعمٍ سياسي لهذه الأمة من المبدعين والمبدعات ؟!!

لقد تحولت بلداننا هذه الأيام إلى كلية من كليات العلوم السياسية ! إني أشفق على هؤلاء الطلاب والطالبات في هذه الكليات , إلى أين سيذهبون حين يتخرجون ؟؟ حتى أمي العزيزة صارت محللة سياسية !

أيها الناس ! ليس كل من التقطت له صورة أمام تمثال الحرية في باريس , يقدّر قيمة الحرية . ألا يجوز يوما أن نرى غرابا ينعق على رأس التمثال ؟

لو نفعت السياسة يوما , لكان مراسل الصحيفة من أثرياء العالم .

وأنا معاذ الله أن أدعو إلى عزل السياسة عن الحياة , لكن السياسة صارت هي الحياة .. الحياة الغريبة عن ذواتنا .

أما يكفينا أن نطلع على موجز واحدٍ للأخبار وكفى ؟!

رحمة الله عليك أيها العقاد لقد غنيتَ لحنا موجعا في صدري حين قلت :
(إنَّ صورة واحدة قيمة تعجب بها الأمة , أدلّ على حرية هذه الأمة في صميم طباعها من ألف خطبة سياسية ,وألف مظاهرة , وألف دستور يشرع لها على الورق .. فلا يخدعنك صياح الأمم باسم الحرية إذ الحق أنه لا حرية حيثُ لا يُحب الجمال .. ) مطالعات – 51 بتصرف