الجمعة ، ٢٦ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٦:٠٢ صباحاً

ربيع واحد وشتاءات متعددة

وليد تاج الدين
السبت ، ٢٥ أغسطس ٢٠١٢ الساعة ١١:٤٠ صباحاً
( 1 )
انطلقت صفارة الربيع العربي من تونس فجأة ودون سابق إنذار وعلى حين غفلة من الحكام فكانت بمثابة ليلة القدر التي انفتحت لها قلوب الملايين في أرجاء الوطن العربي الغارق في بحر من المعاناة في كل جوانب الحياة على اختلاف الأنظمة المتسببة فيها, لم يكن هناك من هو ضد فكرة التغيير والتطلع نحو الأفضل إلا أن بعض التحفظات والمخاوف التي كانت تتصاعد خوفا من انتشار الفوضى وقلة الوعي بآليات التغيير وعدم وجود بدائل مناسبة للأنظمة الحالية وكان الغريب أن الحكام أنفسهم كانوا يبدون على استحياء تأييدهم لفكرة التغيير لكن بعيدا عن كراسيهم وبكيفية زمنية ومرحلية لا تتناسب وسرعة رياح التغيير المتصاعدة مما أفشلهم وأفشل كل تحركاتهم وحيلهم للحيلولة دون السقوط المدوي.

مع انطلاق الربيع العربي انطلق ربيع غربي آخر استغل حاجة الناس إليه وحوله إلى شتاء جفف أحلام البسطاء وزاد معاناتهم وبكيفيات مختلفة وذلك عبر العمل على انتقال السلطة من قوى وأنظمة قوية وذات خبرة سياسية كبيرة في الحكم ومسيطرة بما يتناسب وحجم الوعي المتواضع لدى هذه الشعوب وهي الأنظمة التي لم تعد صالحة للاستمرار إلى قوى ضعيفة وعديمة الخبرة في الحكم ولا تمتلك سوى التأييد الداخلي وانتشار تنظيمي مكَّنها من الصعود للواجهة مما جعلها البديل الوحيد المتوفر في الوقت الحالي رغم عدم رضا الغرب عنها خاصة أن اغلبها إسلامي ويحمل أفكار معادية للمصالح الغربية في المنطقة وللكيان الإسرائيلي لكن ليس من المعقول أن يظهر الغرب وكأنه ضد تطلعات الشعوب وعليه أن يجد وسيلة أخرى غير مباشرة للقضاء على الإسلاميين من الداخل.

التدخلات الأجنبية كانت مختلفة في بلدان الربيع وبكيفية تتناسب وحالة كل بلد إذ يختلف الأمر في تونس عن ما جرى في مصر أو ليبيا فلم تستطيع أي قوى أجنبية التدخل والتأثير في الثورة التونسية بسبب مفاجئتها للعالم وسرعة الحسم الداخلي دون اللجوء أو الاعتماد على أي مواقف دولية مما جعلها الثورة الأفضل من بين زميلاتها في البلدان الأخرى والتي حدث فيها من التدخلات الأجنبية ما افقدها الكثير من النجاح وأطال من عمرها لتصبح مسرحية تراجيدية تحمل للشعوب مآسي عديدة وتترك فراغا مكّن العابثين من العبث والفوضى وممارسة الأعمال غير المشروعة وإلصاق ذلك بالثورة.

فحينما أصبح سقوط نظام مبارك أمرا مؤكدا وأصبح الإخوان المسلمين على أبواب عهد جديد بعد حقبة طويلة من القمع والتضييق والحصار أدرك الغرب أن الزمن يتقدم بهم نحو الأمام وان لا مكان للوقوف في وجه الحركة الإخوانية القادمة بقوة ليتحول القلق الغربي من صعود الإسلاميين إلى تأييد وعدم ممانعة بغية الحفاظ على شعرة معاوية مع شعب مصر وبقية شعوب المنطقة المؤيدة لحركة الإخوان المسلمين والمتعاطفة معها وهي الكيان المنتشر والمنظم والبديل الوحيد لنظام مبارك في ظل عدم وجود تكتلات شبابية كبيرة أو أحزاب سياسية حقيقية توازي حجم النظام الساقط, وكان الموقف الغربي محل استغراب الكثيرين حينما لم يبدي أي قلق أو مخاوف من تقدم الإسلاميين نحو الحكم بل وكان يبدو كالمؤيد وهو الموقف المتوافق مع تطلعات شعوب المنطقة التي كانت بغالبيتها مؤيدة لهذا التقدم.

لم يتغير الهدف الغربي بالقضاء على الإسلاميين وإبعادهم عن الحكم والى الأبد لكن تغير الأسلوب والطريقة وبما يتناسب والموجه التي لا يمكن الوقوف في مواجهتها وأصبح التحدي الحالي يكمن في إحراق الحركة وإفشالها من الداخل بدءا بمصر منبع الحركة, وكل هذا يأتي مع عدم الوقوع في عداء معلن مع تلك الأنظمة أو الشعوب بل عبر إبداء الاستعداد للدعم والمساعدات والتعاون.

يُدرك الكثير أن وصول الإسلاميين للحكم في هذه المرحلة الصعبة يضعهم في اختبار حقيقي أمام شعوبهم المتطلعة لعصر جديد من الحرية والعدل والبناء والتحرر من الوصاية الأجنبية والتدخلات الخارجية في شئون بلدانهم في حين توجد جملة من التراكمات السابقة والمشاكل الاقتصادية والتحديات الأمنية والاجتماعية التي يصعب حلها على المدى القريب, وهذا ما تسعى القوى المعادية لمنع الإسلاميين من تحقيقه وذلك عبر دعم القوى المعارضة في الداخل والمتضررين من هذا التغيير لزعزعة الأمن والاستقرار وخلق حالة واسعة من الفوضى لإشغالهم عن البناء والإصلاح وإثارة السخط العام وبالتالي تنامي الغضب الشعبي من حكمهم وإيقاعهم في مواجهه داخلية تكفل انخفاض التأييد الشعبي وفقدان الثقة بهم وتسهم في تنامي وصعود قوى جديدة يمكن تشكيلها وفق المصالح المستقبلية للغرب بعيدا عن الدين الذي يحد من هذه المصالح.

والنجاح في تنفيذ مخطط إفشال الإسلاميين داخليا في مصر والذي بدأت معالمه واضحة كفيل بإضعاف الحركة في دول عديدة طالما تأثرت بأحداث مصر وكانت تابعا لها في كثير من المراحل, مما سيؤدي إلى إضعاف الحركة الإسلامية في المنطقة العربية وإفقادها الوهج الذي تسعى للحفاظ عليه وهذا ما يجب أن تتنبه له الشعوب بشكل عام والإسلاميين بشكل خاص وان كنا على خلاف معهم في بعض الممارسات فغايتنا أن تصبح مصلحتنا في بلداننا أولا وقبل مصالح الآخرين فينا كما هو العادة.

( 2 )
شرقا إلى سوريا هبت رياح الربيع قادمة من المغرب العربي, سوريا كغيرها من دول المنطقة فيها من الفقر والقمع والفساد, وفيها أيضا من المعارضين إسلاميين وغير إسلاميين وعملاء للخارج ومرتزقة من سوريا ومن خارج سوريا وعشاق للسلطة والذين يتحالفون مع دول معادية لسوريا لتحقيق أهدافهم التي لا تتعدى الاستئثار بالسلطة التي لا يعرفون تفاصيلها ولا يملكون سوى الدم السوري ثمنا لذلك ولا يجدون أي حيلة سوى الارتماء بأحضان أعداء سوريا الوطن لدعمهم بالمال والسلاح والإعلام الذي يساهم في أضعاف سوريا كل سوريا جيشا وأمنا ومكانة, وإن كنا نستنكر ممارسات النظام وفساده ونتعاطف مع الشعب السوري والثورة السورية إلا أننا يجب أن ندرك أن جرم الداعمين للمعارضة لا يقل جرما عن النظام الذي يرى أن المعارضة المدعومة من الخارج تنفذ أجندات خارجية بحق سوريا وتسعى لتدميرها.

غريب تناقض الداعمين للثورة السورية كيف يدعمون ثورة سوريا ويقفون ضد ثورة البحرين لماذا ساهموا بإنهاك نظام القذافي بينما قاموا بإنقاذ نظام صالح لماذا هذه المعايير المزدوجة, الم يقولوا أن من حق أي شعب أن يثور بل ويستخدم ويحمل الأسلحة الثقيلة في وجه النظام في حال فشل مساعيه السلمية, فما الدافع لقمع ثوار البحرين التي لم تحمل أي سلاح يبرر لدرع الجزيرة لدخول البحرين ومواجهة هذه الاحتجاجات واعتقال محتجين وتعذيبهم, ثورة البحرين لايهمنا نجاحها أو فشلها ولا نملك أي انحياز مع أو ضد هذه الثورة لكننا نعتقد أن المعايير مزدوجة تجاه الثورات التي أتت ضمن ربيع واحد وتصر بعض القوى أن تحوله إلى شتاء يجمِّد أحلام الشعوب التي تتساوى في تطلعاتها وتختلف في مصالح الآخرين فيها وفي أوطانها.

هناك نقاط سوداء في تاريخ سوريا السياسي مع القوى المهيمنة في العالم وحلفائها العرب في المنطقة وهذه النقاط ظلت تتراكم منذ رحيل الرئيس الأب حافظ الأسد ومجيء الرئيس الشاب الذي استغل قوة نظام والده لينال السلطة على كرسي من ذهب دون عناء من ذاك الذي يتجشمه المرشح الرئاسي في أمريكا أو أوروبا قبل وصوله للرئاسة ولكنه بالمقابل لم يأتي بجديد ومن شابه أخاه ما ظلم فكل حكامنا لا يتحملون أي مشاق تنافسية تفيد الشعوب وكل أدواتهم هي الانقلابات العسكرية وبناء الأنظمة والحكومات الأمنية التي تمدد لهم وتورث لأبنائهم من بعدهم وتكيّف الشعوب وفق أمزجتهم وتؤمنهم من أي قيود أو مساءلة مهما كانت انتهاكاتهم لشعوبهم, وهذه النقاط السوداء وأبرزها التحالف مع إيران وحزب الله والتمرد على الهيمنة الأمريكية في المنطقة وعصيان مراسيم الديوان الملكي السعودي هي الدافع الحقيقي لتدمير سوريا.

الفرق بينما يجري اليوم في سوريا أنه تم استغلال الربيع العربي المنادي بسقوط الحكام بمبررات التوريث والتمديد والفساد ليس لغرض إسقاط نظام بشار كحاكم فاسد مستبد وعائق أمام تقدم وتحرر سوريا ولكن الغرض إسقاط سوريا كل سوريا وإلحاقها بقائمة الطاعة والولاء الأمريكي السعودي الداعم لتأمين وتقبل وجود الكيان الصهيوني وقطع الصلات بينها وبين إيران وحزب الله.

كانت إسرائيل ولا تزال تبدي قلقها الواضح من هذا التحالف الثلاثي بين إيران وسوريا وحزب الله وحاولت مرارا تفكيك هذا التحالف وبدأت عسكريا من لبنان عبر محاولاتها القضاء على حزب الله متزامنا مع تحركاتها الاستخبارية ضد إيران وسوريا ولكنها أخطأت الحسابات ووجدت أن حزب الله أصعب من أن يكسر وبالتالي زادت مخاوفها أكثر من سوريا وإيران التي قد تظهر كقوى عصية على الانكسار أكثر مما أبداه حزب الله من القدرات وهذا ما تخشاه إسرائيل وتتعاطف معها وتشاركها أمريكا هذه المخاوف.

لجأت إسرائيل عبر يدها الأمريكية إلى حشد المجتمع الدولي وتكثيف الضغط على النظام الإيراني لإرباكه وإيقاف دعمه لحزب الله ومساندته للنظام السوري وفي ذات الوقت جاء الربيع العربي ليشكل فرصة جديدة أمام أعداء سوريا لإسقاطها تحت موجة هذا الربيع الذي يغطي تحته شتاءا يريد لسوريا الجفاف والإنهاك والخضوع وعبر مجموعه من المعارضين وعشاق السلطة والحاقدين على النظام واعتمادا على الدعم بالمال والسلاح والإعلام مستغلين بذلك حاجة السوريين لإجراء بعض الإصلاحات وتوسيع مجال الحرية.

إلى جانب المال والسلاح والتغطية الإعلامية الواسعة عبر باقة واسعة من القنوات الضخمة التي تتحد رؤيتها وفق ما يناسب التوجه السياسي المهيمن في العالم خدمة لأهداف معينة ترسم وفق خطط قريبة وبعيدة المدى وتنفق لأجلها أموال طائلة تغطى من ثروات الدول الغنية في المنطقة العربية مقابل دعمها واحتضانها ودعم استقرار أنظمتها الهرمة, وما يتم التغاضي الدولي عنه في البحرين من القمع والانتهاك لحقوق الإنسان إلا دليل واضح على هذه المفارقة.

ما يحدث في سوريا لا يمكن وصفه إلا عبارة عن ضغط إعلامي ونفسي وتهويل إرهابي وتدمير وشراء منشقين وإغراء للمسترزقين من داخل وخارج سوريا عرب وأجانب وتهويل أرقام القتلى ودفع الجماعات المسلحة التي تتناقض فيما بينها وتتسابق لحصد الدعم الخارجي وتوثق عمليات إجرامية تتحصل على ثمنها مبالغ ضخمة حتى إن بعض الجماعات بقيادتها تتمنى استمرار الأزمة حبا في المال وابتزاز الداعمين أكثر.

لا يمكن إنكار أن ما يجري في سوريا جرائم بحق الإنسان السوري بكل المقاييس واستمرار القتل والخراب ليس من مصلحة سوريا خاصة وان الصراع على أرضها هو صراع بين قوتين إحداهما تدعم المعارضة وتسلحها وتشجعها على إسقاط النظام عسكريا وتغطي على ممارساتها بحق الوطن والمواطن السوري, بينما القوة الأخرى تؤيد بقاء النظام وإخضاع المعارضة لحوار لا يتضح طرفه الآخر ولا يعرف له مطلب سوى السلطة, والحوار هو ما تراه القوى الإقليمية المعادية لسوريا جريمة رغم أن هذا ما حدث في اليمن عبر المبادرة التي تضمنت أنصاف الحلول وأرباعها.

إن كان هناك رغبة حقيقية لإيقاف نزيف الدم السوري فان الحوار والحل السياسي هو الأنسب طالما هناك قوتين سوريتين تمتلك السلاح والدعم والقدرة على الاستمرار أكثر وطالما تعلق كل طرف منهما بقوة دولية وإقليمية ذات ثقل كبير, ولكن القوة الأكثر عداء لسوريا لا تريد إنهاء الأزمة قبل إنهاء كل قوة سوريا وتفكيك جيشها وتقسيمه إلى حر ونظامي مؤيد ومعارض منشق وشبيح, لابد من إثارة النعرة الطائفية بين أبناء سوريا وإرهاقهم بمزيد من الدماء والمعاناة وتشريدهم بين الحدود وعلى المخيمات.

ما لم يحدث حلا سياسيا سلميا فإننا سنرى النموذج العراقي في سوريا لتصبح غارقة في الطائفية والأعمال الإرهابية وتفجير التجمعات السكانية وانتشار ما يسمى بالأعمال الجهادية ضد المدنيين كما إن استمرار إشعال النيران في سوريا قد يسبب صراع إقليمي واسع قد لا تسلم دول منطقة الخليج من التأثر به مما يسهم في اهتزاز أنظمتها المستقرة الغارقة في بحر من الثروات.