الجمعة ، ٢٦ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ١١:٥٩ صباحاً
الاثنين ، ٠٣ يونيو ٢٠١٣ الساعة ٠١:٤٠ مساءً
اللهم إنه كان بارا بوالديه رحيما بهما رغم عوزه وقلة ذات يده وأنه كان عطوفا عليهما وانه كان محافظا على شعائر دينه وما ألحق أذىً بأحد اللهم تقبله عندك مع الصديقين والشهداء.

كان تلك آخر ما سمع من تلك المرأة الثكلى قبل أن تدخل إلى دارها تجتر أحزانها وآلامها، أما الزمان فكان يوم التاسع من ذي الحجة أما المكان فإحدى قرى الوطن الجريح.

فقد ضاقت سبل العيش بذلك الرجل المسكين ولم يعد يجد ما يقتات به هو وأطفاله الصغار البالغ عددهم خمسة أطفال فقرر السفر إلى إحدى دول الجوار عله يجد هناك ما يسد به رمق أطفاله وزوجته وتهيأ لتلك الرحلة المضنية وذهب إلى صديق له فاستقرض منه بعض المال كي يتزود به في سفره المضنى .
وفي الصباح ودع زوجته الوفية وأطفاله الصغار وضم أصغر أبنائه والذي أطفاء الشمعة الأولى من حياته منذ أيام قلائل إلى صدره وتحدرت من عينه دمعتان وناول الصغير لأمه ولوح لهما ومضى وكأنه يساق إلى مشنقة الموت تتقطع نياط قلبه حزنا وأسىً لفراق أهله.

وذهب إلى بلد الاغتراب وكل همه أن يجد عملا يؤكل منه أطفالا غرثى ينتظرون أوبته وهناك على الحدود حيث تنتهك كل كرامة لأبناء هذا الوطن وينظر إليهم كقطيع من الكلاب الضالة وبينما كان ذلك المسكين يستعد لاجتياز الحدود أتت رصاصة طائشة لتستقر في راسه المثقل بهموم الحياة وكربها وتضع حدا بينه وبين الحياة وهمومها وماهي إلا لحظات قليلة حتى أسلم الروح لبارئها وبعد قليل أتى جماعة من الناس فأخذوه إلى موضع قصي وقاموا بمواراة جثته الثرى وكان من بين تلك الجماعة رجل يعرفه حيث جمعتهما الغربة منذ أمد ليس بالبعيد وقد حاول ذلك الرجل أن يجد أحد أهله أو معارفه ليبلغهم خبر وفاته ولكنه لم يجد أحدا فمضى الرجل لشأنه وتتصرم الأيام وتطوى الشهور ولا من خبر عن ذلك الغائب الذي تعود أن يعود إلى بيته في بداية العشر الأواخر من شهر ذي الحجة ويقضي عيد الأضحى بين أهله وأطفاله مغتبطا مسرورا وها هي الأيام الأخيرة من شهر ذي القعدة تتصرم ويزداد شوق الزوجة وأطفالها لعائلهم الوحيد فكانت الزوجة تخرج من كوخها المتواضع في الليالي السرار من شهر ذي القعدة تنتظر زوجها ولا تعود إلا بعد أن يمضي الليل معظمه.

وتطوى الأيام ولا من خبر عن ذلك المسكين ومع تعاقب الليالي والأيام يزداد قلق الأم وأطفالها على والدهم ويعدون الساعات والدقائق لعودته ولكن أنى لهم ذلك
فكل غائب يعودُ وغائب القبر لا يعود
ويبدأ أبناء القرية في التوافد على قريتهم وكلما سمعت الأم وأطفالها بعودة أحد أبناء القرية سارعوا في الذهاب إليه لسؤاله عن والدهم الذي طال انتظاره وما من خبر فيستبد القلق بأولئك المساكين وتلح كلا من أحلام وأماني وهما أكبر بنات ذلك المسكين وعمريهما ست سنوات وخمس سنوات على التوالي على سؤال أمهما عن والدهما فتحاول الأم تسليتهما وتعدهما أن والدهم قادم وفي فؤادها قلق شديد يتنامى مع الأيام.

ها هو اليوم الثامن من ذي الحجة ولم يصل الرجل بعد وترفع تلك الزوجة المسكينة أكفها إلى الله وتلح في الدعاء أن يحفظ زوجها وأب اطفالها وأن يعيده إليهم سالما غانما وتمضي سحابة ذلك اليوم ويحل الليل بغداف أسود وينفذ معه صبر الانتظار فتنفجر كلا من أحلام وأماني باكيتين وتتبعهما أمهما ويعلو نحيبهما ولا من مجيب يسمع تلك الآهات التي تتردد في جنبات ذلك الكوخ الصغير ويستسلم الجميع للنوم عدا الأم فلم تنم إلا غرارا ومارقأ لها جفن معظم الليل وتبرز ذكاء التاسع من ذي الحجة من خدرها وتصبح المرأة صائمة يوم عرفة لما في صومه من الفضل العميم والأجر الكثير وهي لا تفتأ تدعوا الله أن يسلم لها زوجها وأب صغارها الذين يتضورون جوعا ويتشوقون لرؤية والدهم .

وفي ذلك اليوم وصل آخر فوج من أبناء القرية لقضاء أيام العيد بين أهلهم وذويهم وكان بين ذلك الفوج من يعلم بمصير

ذلك الرجل فقد تقابل مجموعة من أولئك النفر العائدون إلى بلادهم مع ذلك الشخص الذي وجد الرجل مقتولا عن طريق الصدفة فأخبرهم أنه وبينما مسافرا هو وبعض أصحابه وجد ذلك الرجل مقتولا في إحدى الشعاب وأنهم قاموا بدفن الجثة حتى لا تكون طعما للكلاب والغربان فترحم الجميع على الرجل وأسلموا الأمر لله .

علمت الزوجة بوصول اولئك النفر وكالعادة ذهبت إليهم تستقصي خبر زوجها وعندما وصلت إلى أحدهم وسألته فأخبرها بالأمر وأن الرجل قد أسلم الروح لبارئها فصرخت الزوجة وولولت وعلا نحيبها فأخذ بعض أبناء الفرية يعزونها في مصابها ويحاولون التخفيف من مأساتها ولكن الخطب كان أكبر من أن يحتمل والمصاب جلل أما أحلام فقد تلاشت كل أحلامها بفقدان والدها وكذلك أماني التي كانت تتمنى على الأقل أن تلقي نضرة الوداع على والدها الحنون وأنى لها ذلك فعاد الجميع إلى كوخهم الصغير لا يملكون من عرض الدنيا شيئا غير الحزن والآسي وكأن الشاعر عناهم بقوله:-
يا عيد عدنا أعدنا للذي فرحت به الصغيرات من أحلامنا فخبا
رحماك يا رب بهم اللهم كن لهم خير مؤنس وأبدل فقرهم غنى وسهل عيشهم وارحم والدهم وأنزل عليه رحماتك يا رب فأنت ولي ذلك والقادر عليه وحسبنا أنت ونعم الوكيل.